على العهد باقون

 

د. خالد بن حمد الغيلاني

Khalid.algailni@gmail.com

@khaledalgailani

في ليلة شاتية من ليالي يناير، وعلى غير العادة في إجازة نهاية الأسبوع نمتُ باكرًا، ومع تباشير الفجر الصادق، وصوت الأذان يبعث الحياة في النفوس، دخلتُ جامع الحي فإذا الوجوه قاتمة، فلا حياة فيها، ولا روح تُبادرك منها، قلت لعله أوَّل الصباح والناس ما زالوا بين يقظة ونوم..

صلى الإمام وصوته الفخم المشوب بالحزن يتردد بين جنبات الجامع، ثم سلّم ودعا وعند ختم دعائه عظّم لنا الأجر، ورغم قربي منه ما سمعته فيمن يُعظّم أجرنا، ولعل أذني أبت السماع والاستماع، همست فيمن يجلس عن يميني فيمن يُعظّم الإمام أجرنا؟! قال سائلًا مُستغربًا؛ ما عندك خبر؟ قلت: لا. فبادر في السُّلطان قابوس! أصابني ذهول مع صدمة، كما أصاب عُمان كلها، أسرعتُ خارج الجامع ودمع عيني يُسابق خطوي، ركبتُ سيارتي ولم أعلم أين أمضي بها، بكيتُ كما لم أبكِ يومًا، وكأني ادَّخر دمعي لهذا اليوم، بكيناه أبًا وسلطانًا. حضرتُ وحضرتْ عُمان تلك الجنازة المهيبة التي اهتز لها جامع السلطان قابوس الأكبر، ففي ذات المكان صلى، وفيه صلى النَّاس عليه.

خرجنا والقلوب تودع موكبًا غير مُودع، فعلمنا أنه أوصى بمولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم- أبقاه الله- سلطانًا من بعده لما توسمه فيه من الصفات، وهي الفراسة المعهودة، والنظرة الثاقبة التي لا تحيد عن الحق أبدًا.

انقضى نهار ذلك اليوم وليلهُ، والدموع تنهمر من مآقيها؛ فالأرض تبكي وكذا السماء، ومع صباح يوم جديد تمنطقت خنجري، كغيري من أبناء عُمان، ويممت مسقط؛ حيث الحل والعقد، والأمر والنهي، وصلتُ إليها وأنا أظن أنني جئتُ باكرًا فإذا الشوارع مزدحمة والطرق قد كساها بياض القوم؛ شُم الأنوف والجباه، الصيدُ السراة، أهلُ العزم والعزائم، والثبات والشكائم، دخلنا أبواب القصر العامر والزحام شديد، لكن الواجب ملزم، والأوجب ضرورة، وبين فتح الباب لأبناء عُمان، وإغلاقه حيناً لاستقبال ضيف جاء مسرعًا لأداء واجب تفرضه العادات والقيم والمواثيق؛ مضت خمس ساعات قصيرة رغم طولها؛ لأنَّ الغاية عظيمة، وأنا عند أول الباب وجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم-حفظه الله- في صدر المجلس، وكلما اقتربتُ منه وتفرّستُ ملامحه، كلما اتَّضح لي هيبته وشموخه.. عظم الأمانة، وثقل المسؤولية، غيرة المحب، ورغبة الطامح لأجل وطنه وشعبه. وصلتُ إلى مقامه السامي؛ مددتُ يدي فمدَّ يده، فبادرته بالواجب؛ عظّم الله أجرنا يا مولاي، أومأ برأسه ثابتًا عزيزًا شامخًا، ثم نطقتُ بالأوجب مُبايعًا لجلالته على السَّمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وألا ننازع هذا الأمر أهله أبدًا، وأننا على العهد باقون.. بايعتُ وعُمان كلها بايعتْ، بايعتُ والخير مرتسم على وجه جلالته، بايعتُ والأمل معقود بيده، بايعتُ والعزيمة في زمامه، بايعتُ وعمان أمام ناظريه، بايعتُ والآمال كبار، والغايات عظام، والطموح لا تحده الحدود، بايعتُ بيعة محب لوطنه، مخلص لسلطانه، غيور على المكتسبات، وبايعتْ عُمان كلها على ذلك، فأهلها أهل صدق ووفاء، وبذل وعطاء، راسخون كجبال عُمان، ثابتون ثبات أهل الحق، عُمان عندهم في المقام الأول، والصف الأول، فهي غاية مرادهم، ومنتهى رجائهم.

تولى جلالته مقاليد الحكم في ظروف غاية في التعقيد، شديدة في الأثر والنتيجة، فهناك أزمة مالية خانقة، وأسعار نفطية متدهورة، ودين عام مُرتفع، وأزمات دولية، وظروف إقليمية شديدة الحساسية، ثم جائحة وبائية كانت قشة قاصمة، مع قضايا وطنية مُلحة للغاية تتصدرها قضية الباحثين عن عمل.. ولأنه العاهل المفدى- نصره الله- انبرى لهذه الصعاب، وسعى لها سعي الواثق أن شعبه من خلفه يقفون صفًا واحدًا؛ فلا فرقة ولا شتات شمل، ولا دعوة تنال من هيبة البلاد ووحدة صفها، ونحن والله على العهد والوعد فالأصل حيّي، والنبت رضي، والسلطان من نعلم صدقه وطيب فعله، وله السمع والطاعة.

ومع مرور الوقت والأزمة ما زالت قائمة، والحلول غير ملموسة، ليس لأنها منعدمة، ولكن.. لأنَّ المعضلة شديدة، والأثر غير واقع بالشكل المرضي لطلبات الناس واحتياجهم؛ ولي في هذا الأمر أربع صرخاتٍ من محبٍ غيورٍ:

الأولى: إلى كل مسؤول.. نعلمُ جميعًا أنَّ الظروف صعبة، والملفات عديدة، لكن لابُد من إيجاد الحلول العاجلة جدًا والملزمة للجميع، وأعني كل قطاع عليه واجب الوفاء للوطن، وينبغي على كل مسؤول مُكلف بمهمة في هذا الوطن أن يعكف على حل كل المشكلات، وابتكار الحلول، وتسهيل الأمر على المواطن، بدءًا من إيجاد الوظائف وحل مشكلة المُسرحين وتذليل تحديات المتقاعدين وغيرها.

الثانية: لمن يدعو للتجمعات، هذا ليس حلًا ولا سبيلًا، والضرر أكثر من الفائدة بلا شك، لذلك فإنَّ منع ضرر الخروج والتجمع أوجب من فوائده، وعلى الجميع أن يحصل على حقوقه عبر القنوات والوسائل التي حددها النظام، وأقرها القانون، وبالشكل الذي يحفظ الوطن والمنجز، ويمنع الشر، ويكبح ذوي النفوس الخبيثة.

الثالثة: للقائمين على الشأن الاقتصادي وليس المالي، والفارق بينهما كبير، نقول إن الأثر الإيجابي لسياسات الانفتاح الاقتصادي كبير.. صحيح أن هذا الانفتاح صعب في البداية ويحتاج لضخ أموال وتوفير الاحتياجات لأبناء المجتمع، لكن النتائج مبشرة للغاية، فهي تسهم في تحريك الدورة الاقتصادية، وتداول المال، وتنوع المشاريع، وجذب الاستثمارات، فمثلا لو تم توفير وظائف للباحثين ومنع التسريح من العمل ومساعدة المتقاعدين، سيسهم ذلك في انتعاش الحركة الاقتصادية وإدارة الأموال.

الرابعة: المحاسبة والمساءلة من سنن الكون، وعلينا أن نواجه كل من سولت له نفسه المساس بمقدرات وطننا العزيز، وكُلنا يقين بأن أجهزتنا الرقابية، رغم أنها تعمل في صمت، لكنها تحاسب المُخطئ والمُقصِّر.

حفظ الله عُمان من كل مكروه..