سعيدة البرعمية
انتشلني الحنين لمكان له في قلبي مكانة، ذهبت إليه، أخذت أصافح أحجاره وأُقبّل أتربته وأتأمل ما طرأ عليه من تغيير، أخذت أمسح على كلّ شيء وكأنني أعتذرعن غيابي الذي خطفني منه لسنوات تتوالى من الهجر، وقفت تحت الشجرة التي غرستها وإخوتي أمام المنزل بإشراف أبي، لكنها لم تعرفني، فقد كبرتْ وأصبحت وارفة الظلال وكبرت أنا؛ فتغيرت ملامحي الطفولية ولم تعد صادقة ولا وفية، تجاعيد الحياة المتعرجة تحت جلدي وفوق جلدي غزتني، وروحي المرحة لم تعد كذلك.
تركت الشجرة وانصرفت، فتكهناتها تجاهي لم تعجبني، تفقدت المكان بعناية، وجدت بعض الأحجار الصغيرة التي كنت ألعب بها، والتي بيني وبينها أُلفة جميلة، تساءلت هل يا ترى عرفتني أم هي أيضًا كالشجرة تستنكر وجودي؟! كمية من الغموض والإنكار يبدوان عليها.
تمنيت لو أنني لم أغادر المكان، لو أنني اكتفيت بالعيش هناك بين الشجر والحجر على التراب وتحت أصوات الطير، وسع الشجن كلّ شيء حولي، دخلت المنزل، رأيت على رفّ إحدى الزوايا صندوق لعبة الشطرنج التي كنَّا نلعبها، وبجانبه كتاب اكتسى غلافه التراب والرطوبة وقد تلاصقت أوراقه وأخشوشنت، تناولت الكتاب فأخذني لعالم آخر، إنه أول كتاب أقرأه، قضيت معه أوقاتاً مُمتعة فقد كنت أجوب من خلاله البحار مع قصص السندباد الخيالية العجيبة، تصفحت صفحة الفهرس البالية، تذكرت تلك القصص العجيبة التي كنت أعيش أحداثها متأثرة.
رأيت سرير أبي وبعض أغراض أمي القديمة، مجموعة من الحصير المطوي، مجموعة من العِصي التي كان أبي يقطتعها من شجرة "الميطان" مرتبة على السّحارة الحديدية المحكمة بقفل نحاسي جميل، مازال محتفظا برونق جماله.
شغلتني كمية الغبار المُتناثرة على كلّ شيء حولي، وبدأت باستنطاقها، فحكت لي ما كنت غافلة عنه. أخبرتني أنه ثمَّة أرواح سكنت المكان، قالت: انظري للأعلى، فرأيت بيوت العنكبوت وفساتين الأفاعي عالقة على ألواح سقف المنزل، رميت الكتاب وصرخت بأعلى صوتي، وقفزت عدة مرات كالمجنونة أضرب برجلي الأرض هاربة من المنزل.
ضحك المكان بسخرية على قدر ما يحوي من الحزن، قهقهات الغبار وصلت مغارات الجبال حولي وامتلأت بها، فرددها مرارا.
صرختي تلك ذكرتني بصرخة مُماثلة لها، كنت قد صرختها سابقاً في المكان نفسه، عندما لمست ذلك الشكل الهلامي الأسود بكتفي وأنا خارجة من الباب أغسل يدي بعد تناولي وجبة العشاء، فانتابني شك أيضاً أن المكان قد يكون مستعمر أيضًا من قبل الكثير من الأرواح التي عمّرته وأهتمت به في غيابي، قد تكون هناك أرواح بأشكال هلامية أخرى لم أرها تملأ المكان دون أن أشعر بوجودها.
وقفت بعيداً أنظر إليه، فقلبي الضعيف لا يتحمّل رؤية نفس المشهد مرة أخرى، أو مشهد آخر مُماثل له، فاكتفيت باسترجاع المشاهد الخارجية ففي كّل شبر من ذلك المكان لي فيه حكاية، جلست على مكان موقد النار، تأملت الرماد الذي تحفه ثلاثة من الأحجار المتساوية في الحجم وكمية من الحطب قريب منه، كان أبي يجلس هناك، وكنّا نلتف حوله، والنار مشتعلة، يحكي لنا الحكايات ونحن ننظر للنار وإبريق الشاي على الفحم بقربها.
كان دفء أبي يزاحم دفء النار، وكانت عيناه تلمعان أثناء حديثه وكنت أنظر إليه بإعجاب لم أنظر به لأحد سواه، كنت أُعظّم كلّ حرف ينطق به، وعندما يسكت أطلب منه المزيد من الحديث.
رقّ المكان لحالي؛ فاجتهد باستعادة صدى ضحكة أبي، سمعتها تنبعث من تلك الحجارة التي كان يجلس عليها، سعدت كثيرًا بسماعها، لم أستوعب كيف طاوعتني نفسي هجر هذا المكان الساكن فيني، مددت يدي للرماد الذي تعاقبت عليه السنون، أخذت حفنة منه وصرت أنثره أمامي في الهواء، لا أدري أهو رماد النار حقاً أم رماد قلبي!
غادرت المكان، بالرغم من أنني لم أغادر، تذكرت عبارة عميقة، كانت قد حفرت قلبي من الفيلم الأمريكي Words Thousand للكاتب ستيف كورن " نترك شيئا من أنفسنا عندما نغادر المكان".