بين التشاؤم والتفاؤل

 

عبدالله الفارسي

هذا المقال طويل بعض الشيء، لكنه لذيذ وخفيف على المعدة ويُساعد على الاسترخاء وليس له أي أعراض جانبية، لذلك يفضل قراءته قبل النوم!

منذ سنتين قرأت خبرًا يقول إن شركة فايزر العملاقة تجري أبحاثًا علمية وتجارب سريرية لإنتاج لقاح للتفاؤل؛ حيث إنَّ أطباءها وعلماءها يعكفون منذ سنوات لإنتاج لقاح خاص باعث على التفاؤل، وذلك لمواجهة موجات التشاؤم التي تجتاح البشرية منذ منتصف القرن العشرين، لكن للأسف جاء فيروس كورونا اللعين وتوقفت تلك البحوث حتى إشعار آخر!

وقبل سنوات راجعت طبيباً نفسياً وأنا في حالة تشاؤم بركانية قاتمة، فطرحت على رأسه تشاؤمي العظيم، وصببت فوق جمجمته يأسي الكبير من أشياء كثيرة أراها أمامي ولم أستطع هضمها أو استيعابها، أسمعها فلا تقبلها نفسي أراها وتستقبحها روحي. فقال لي الطبيب النفسي: ابتعد عن التشاؤم يا عبدالله، التشاؤم سيحطم نفسيتك، وسيكسر معنوياتك، وإذا تحطمت نفسيتك ستضعف أجهزتك الحيوية وستُصاب بالخلل الفكري والعطب الجنسي! ولن يختفي تشاؤمك هذا إلا بمرافقة المتفائلين ومُصاحبة الباسمين الضاحكين.

ومنذ ذلك التاريخ القديم البعيد وأنا أبحث عن المتفائلين المبتهجين، وأتصيد أماكن تواجدهم وأتتبع روائحهم، وأرتمي وسط ضحكاتهم ليس قلقاً من الخلل العقلي وإنما فزعاً من أن أصاب بالعطب الجنسي، فالحالات النفسية الحادة تحطم الرجل، وتجعل منه "لا رجل" كما أفصح لي أكثر من طبيب وأكثر من خبير!

ومنذ فترة قصيرة جلست مع أحدهم ندردش في واقعنا المُحبط ومستقبلنا القاتم وأيامنا السوداء القادمة، جليسي كان متفائلا جدًا، وأنا عكسه تماماً متشائمًا جدًا كعادتي.. لا تندهشوا، أحياناً يجتمع النقيضان وينسجمان بدرجة عجيبة بعد أن يظنا كل الظن ألّا تجانس.

كنتُ بحاجة لحقنة معنويات مركزة مرتفعة؛ لتمسح عني تشاؤمي الذي يعبئ نفسي درجة الضباب والظلام، كنت أبحث عن أي متفائل يقنعني بأنَّ هذا الذي يحدث معنا شيء معقول وأمر منطقي ويمكن تقبله وهضمه واحتماله.

جلست مع صديقي المتفائل الأول الذي أخبرني قصته الطريفة، يقول صديقي المتفائل: "في الشتاء الماضي اضطررت أن أحني رأسي وأهين كرامتي لأحد الأغنياء تجمعني به صلة قرابة بعيدة، رجل مليونير يملك ملايين داخل البلد وملايين خارجها، ذهبتُ إلى شركته العظيمة، حاملاً أوراق ابنتي خريجة الجامعة الباحثة عن عمل منذ العام 2014، طرقت باب مكتبه الصقيل، تفاجأ بزيارتي، ضحك بخبث، وصافحني بغرور.

قال لي: لم أتوقع زيارتك.

قلت له: إنِّه الزمن أيها القريب، إنها الحياة حين تجبرك أن تحني رأسك وتُهين كرامتك، كنت على يقين بأنني لن أحقق شيئًا من هذه الزيارة سوى كوب رخيص من الشاي وذل حارق لا يطاق، وفعلًا، لم أجنِ شيئًا من مُقابلته سوى شاي مرٍ حملته في فمي، وقهر يملأ صدري درجة التزلزل والانفجار". انتهت قصة صديقي المتفائل الأول.

وبعدها ببضعة أيام اشتهيت التفاؤل وتعطشت له كثيرًا درجة الجفاف والتشقق، فبحثت عن صديق متفائل أكثر تفاؤلاً من الأول فأنا حريص على اصطياد المتفائلين، حسب نصيحة صديقي الطبيب النفسي لي منذ سنوات. صديقي المتفائل الثاني، عثرت عليه جالسًا على حصيرة ساندًا رأسه على مخدة من القطن في إحدى الاستراحات الشاطئية، ومنبطحًا كفقمة سمينة مترهلة، فهرولت إليه وجلست بجانبه، كان محتقن الوجه أزرق الملامح وكأنه لاجئ أفغاني، فقد كان أحد ضحايا التقاعد الإجباري، ولم يكن يتوقع في أسوأ أحلامه أن يحال للتقاعد بهذه الطريقة وبهذه السرعة، فقد كان مثقلاً بالديون ولا يبقى من راتبه سوى 220 ريالاً. فأضطر صديقي المتفائل الجامعي وصاحب الماجستير في الإدارة التربوية أن يسوق سيارة طابوق في مصنع أحد معارفه، براتب 160 ريالاً شهرياً حتى يتمكن من أن يواصل حياته ولا يفرش حصيرته أمام المساجد، لقد اختفت ضحكاته وجفَّ تفاؤله وأصبح لونه أزرق كبنغالي قادم من بنغلاديش للتو، لقد اسودت نفسه، ولا تسمع منه سوى عبارات الشتم واللعنات على الدنيا وكفرها، وعن الحظوظ وفجورها.

بصراحة خفت على معنوياتي منه فتركته مباشرة، وبحثت عن متفائل آخر، ينفث في روحي الإيمان والبهجة، ويشعل في صدري السرور والفرح.. فالتقيت صديقي المتفائل الثالث في مقهى شيشة، كان ينفث أرجيلته في الهواء بمهارة وحرفنة فأغرقني وأغرق المكان بالدخان، قال لي صديقي المتفائل الذي يتقن تدخين الشيشة بمهارة لاعب سلة أمريكي: قبل عدة أشهر كتبت رسالة جميلة رائعة رقيقة إلى أحد أصدقائي الذي لا ينتمي إلى طبقتي الاجتماعية الفقيرة؛ بل ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية الثرية فاحشة الثراء، لا ينتمي إلى هذا الطين الذي نتمرغ فيه؛ بل ينتمي إلى السماء والسحب والغيوم. كتبتُ له رسالة أطلب مساعدته ومساندته ودعمه ليحصل أحد أبنائي الثلاثة الباحثين عن عمل منذ 3 سنوات على وظيفة، أي وظيفة يسد بها رمقه ويحفظ بها ماء وجهه وماء وجه إخوته ويخفف عن كاهلي بعض مصاريف ستة من الأبناء. يقول صديقي المتفائل وهو يرسم لي ضحكات وقهقهات في الهواء بدخان أرجيلته التي يتفنن في فرقعة وقرقعة مائها كعازف آلة أوكرديون: كنت أعتقد بأنَّه صديق عزيز حسب مُعطيات اللقاءات والاتصالات والمراسلات التي جمعتنا، كنت أعتقد إنه إنسان حقيقي حسب مؤشرات الإنسانية التي يعرضها علينا ويرسمها لنا يومياً في جروب الواتساب.. الواتساب هذا التطبيق اللعين الذي كشف حقيقة الناس وسلخ جلدهم وعرى دواخلهم أمام العيون.

واستأنف صديقي المتفائل كلامه بعد أن أرسل لي كومة من الدخان رسمها في الهواء على شكل قلب حزين منفطر يقول: لقد أصبح الوضع الحياتي مزريا ومزعجا للغاية، أصبح الوضع معنا هو في مدى قدرتك على الوصول إلى هذا الصنف المرتفع السيئ من البشر، لأنهم هم من يملكون زمام الأمور، وهم من عندهم مفاتيح الأبواب المغلقة، وهم أصحاب الثروات وهم أصحاب العلاقات وهم أصحاب الواسطات والمحسوبيات، فنجاحك يعتمد على علاقاتك بهذه الطبقة المرتفعة وعلى مدى قدرتك في الوصول إليهم والتواصل معهم والتقرب منهم واللجوء إليهم والجلوس في مجالسهم، والتعطر من عطورهم فهم من يملكون مفاتيح سبل الحياة.

يُكمل صديقي المتفائل بعدما فعلت الشيشة فعلتها في رأسه: كتبت له رسالة مؤثرة، اجتهدت في كتابتها صببت فيها كل قدراتي اللفظية وكل مهاراتي اللغوية سجعتها بالسجع، وسطرتها بالتشبيهات والمترادفات، دلقت فيها جل كرامتي، وأرقت فيها ما تبقى من عزتي ورجولتي.

قلت له: لماذا تفعل ذلك؟

قال: لأجل أبنائي، افعل ذلك نعم، وربما أفعل أكثر من ذلك لو اضطررت.

راجعت الرسالة عشرات المرات قبل أن أرسلها وطرزتها بكل كلمات التأثير والتأثر والتفعيل والتفاعل، وذلك لأجل أن تدخل قلبه بسرعة وتدغدغ مشاعره بقوة، ذهبت إلى مكتبه في مسقط وصعدت في المصعد وقلبي معبأ بالأمل مكتنز بالتفاؤل، وسلمت سكرتيرته اللبنانية الفاتنة والتي سال لعابي حين رأيتها وارتعشت أطرافي حين واجهتها، ولم أتذكر كلمة منمقة واحدة من عشرات العبارات والجمل التي كنت أحفظها عن ظهر قلب، تلك المنسقة التي اقتحمت عليّ أحلامي طوال شهرين كاملين، سلمتها الرسالة بأصابع مرتعشة وهربت بسرعة قبل أن يغمى علي فوق طاولتها.

كنت أتوقع أن تقع الرسالة موقعها من قلب رئيسها، وتستقر في شغاف فؤاد ولي نعمتها، لكن الرسالة فشلت في تحقيق هدفها، ولم تصل لغايتها.

يقول صديقي المتفائل: رغم أنني لم أطلب من صديقي المليونير وظيفة في شركاتهم العديدة العظيمة، وإنما كل ما طلبته منه هو توصية منه في شركة تمويل أو شركة محاسبة أو أي بنك من بنوكنا التعيسة، فهو له علاقات وثيقة بهذه الشركات، وتلك المؤسسات وله أرصدة بالملايين في كل بنك. رسالتي الجميلة للأسف، لم تحرك أي شيء من مشاعره، ولم تدغدغ جزءا صغيرا من فؤاده، ولم تهز أصغر عضلة في قلبه.

بل تجاهلني تمامًا ولم يرد عليّ نهائيًا، كأنني لا أحد، وهذه ليست الرسالة الأولى التي أخاطب فيها شخصًا مرتفعًا وشخصية "هامورية" في المجتمع طلباً للنجدة....

انتهى كلام صديقي المتفائل الثالث.

هنا.. قررت إيقاف عملية البحث عن المتفائلين نهائياً، والعودة إلى أصدقائي المتشائمين السابقين فهم لم يصلوا بعد لهذه المرحلة من التهشم والتشظي والاندثار.