التعليم العالي ومطلب التحول إلى القاعات الافتراضية

 

د. يحيى بن ربيع النهدي

رئيس الدراسات الإدارية والمالية

كلية الزهراء للبنات

yalnahdi@zcw.edu.om

 

"كوفيد-19" ليس مجرد وباء كالأوبئة التي فتكت بالبشرية على مر العصور؛ بل إنَّه يتعدى ذلك بكثير؛ فقد غيَّر هذا الوباء وجه العالم وضرب كل مفاصله، باعد بين الأوطان وأخَّر تقدُّم الإنسان، هدم قلاع اقتصادية عظيمة وعطَّل شركات عملاقة كبيرة، وباتت تصفية الشركات خبراً روتينياً في كل جرائد ومجلات العالم، وأصبح همُّ الحكومات مقتصراً على خلق جدار حماية لمواطنيها من فتكِ هذا الوباء؛ بتشديد إجراءات التباعد وغلق الأنشطة، وأخيراً بتوفير اللقاحات الذي بات المنقذ الوحيد الذي تعوِّل عليه البشرية من شرِّ هذا الوباء الذي لربما ستتعايش معه لأجل غير معلوم.

ومن القطاعات التي تأثرت بفعل الجائحة قطاع التعليم العالي، فبين عشية وضحاها فرِغت غرف التدريس بالجامعات والكليات من طلابها، وتباعدَ مقدم المعلومة عن متلقِّيها، وأُجبرت مؤسسات التعليم العالي للتوجُّه إلى التعليم الافتراضي عن طريق المنصات الإلكترونية، رغم عدم جاهزية أغلبها لهذا التحول المفاجيء، فضلاً عن كون هذه المؤسسات الأكاديمية ملتزمة بطلَّاب علمٍ لهم الحق في الحصول على المعرفة، كما لهم الحق كذلك بالتزام مؤسساتهم التعليمية بخططهم الأكاديمية المرتبطة ببرنامج زمني يصل بهؤلاء الطلبة إلى منصة التَّخرج - اليوم الذي يحلم به كل طالب وطالبة - فأيَّ تأخيرٍ في البرامج الدراسية سيباعدُ المسافة بين الطالب وهذا اليوم المأمول، إضافة إلى أن بقاء هذه المؤسسات أصبح يقاس بقدرتها على نقل المعرفة عن طريق المنصات الافتراضية والتعليم عن بعد، لذلك سابقت المؤسسات الأكاديمية حول العالم الزمن للانتقال إلى التعليم عن بعد أو التعليم الإلكتروني لضمان بقائها .

والتعلم عن بعد هي فكرة ليست وليدة اللحظة، كما أنها ليستْ نتاج لأزمة الوباء الذي يحلُّ بالعالم في هذه الأوقات، فهي تمتد إلى ما يزيد عن قرنين من الزمن؛ ففي دراسة استقصائية أجراها سالم العنزي وحمود السعيدي عام 2021 تستهدف معرفة واقع التعلم عن بعد في فنلندا، جاء فيها أن كاليب فيليبس الأستاذ بجامعة بوسطن، نشر في عام 1729 دروسًا أسبوعية لطلبته في صحيفة "بوسطن جازيت"، وكانت هذه الخطوة هي بداية انطلاقة التعليم عن بعد، إلا أنَّ التعليم الفصلي ما زال سائداً، ولم تتبنَ أغلب الدول نظام التعليم عن بعد في أنظمتها التعليمية، إلى أن جاء وباء كوفيد-19 الذي أجبر هذه الأنظمة على التحول نحو التعليم الإلكتروني، فمنها من نجح لتوفر الإمكانات، وتوفُّر البنية التحتية من خدمات الإنترنت، وتوفر الحواسيب، والمعرفة الرقمية للمدرس والطالب ومنها من تعثَّرت فكانت معاناة المدرس والطالب على حد سواء كبيرة.

وفي السلطنة جلبَ الوباء وابلاً من التأثيرات على مختلف القطاعات، فكان سبباً واضحاً في تأخير ما خطط له من المشاريع الدافعة لعجلة التنمية في البلد، كما أنَّ شركات كثيرة قد أُغلقت وموظفين سُرحوا من وظائفهم، وأسر عانت من ضوائق الدخل لأسباب مختلفة.

ونال قطاع التعليم العالي نصيبه من تأثيرات الوباء على مؤسساته الأكاديمية، فجاء القرار الحكومي بإلزامها بالتحول إلى القاعات الافتراضية كأحد الإجراءات من أجل تخفيف وطأة الوباء، إلا أن مُعظم هذه المؤسسات لا تمتلك البنية التحتية التي تمكِّنها من تحقيق هذا التحول بسهولة ويسر، يقابله عدم استعداد أولياء الأمور إلى توفير كل متطلبات التقنية لأولادهم حتى يتمكنوا من متابعة الدروس اليومية والمقدمة عن طريق التطبيقات الإلكترونية، إضافة إلى أنَّ ضعف المعرفة الرقمية سواء في السلك التدريسي أو الطلابي قد تسبَّب في إبطاء عملية التحوُّل إلى التعليم الإلكتروني.

ورغم هذه الصعوبات إلا أننا نستطيع القول إن هذه المؤسسات نجحت في الوصول إلى تحوُّلٍ معقولٍ، ضَمِنَ على الأقل استمرار العملية التعليمية، وإن لم تكن بتلك الجودة المرجوة مقارنة بالتعليم التقليدي، بيدَ أن هناك سعياً ملحوظاً للمؤسسات من أجل تحقيق استفادةٍ مُثلى لتعليم إلكتروني وفق معايير عالية.

ولقد كان القرار الأخير الصادر من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار برجوع الطلبة في مؤسسات التعليم العالي إلى مقاعد دراستهم العام المقبل إن شاء الله- قراراً مُفرحاً لهذه الكليات والطلبة على حد سواء- فقد أعلن نهاية المعاناة التي تواجهها مؤسسات التعليم العالي في تقديم تعليم افتراضي بامتياز، إلا أن واقع التعليم الإلكتروني لايجب أن يختفي باختفاء هذا الوباء ورجوع التعليم العالي إلى النظام التقليدي، فالعالم أصبح في وضع غير مستقر، ولن يكون هذا الوباء بالتأكيد هو الأخير، فربما تحدثُ كوارث أخرى تنتظر البشرية سواء من الأوبئة أو الكوارث الطبيعية، وبات لزاماً على المؤسسات الأكاديمية في سلطنة عمان أن تستمر في تقديم نسبة من التعليم إلكترونياً، خاصة وأن هذا القرار قد أتاح المرونة في ذلك.

والحل في الوصول إلى هذه الغاية هو إنتهاج هذه المؤسسات لنظام التعليم المدمج (Blended learning) وهو سمة التعليم العالي في السنوات القادمة، فهذا النظام يتيح الدمج بين التعليم التقليدي في الفصول وتقديم المحاضرات عن طريق المنصات الإلكترونية، وبالتالي سوف تتعاظم الخبرة في التعلم الإلكتروني لدى الأكاديمي والطالب على حد سواء، وسيصبح الأمرُ سهلا إن أضطرت هذه المؤسسات للعودة إلى التعليم الإلكتروني مرة أخرى.

وتتمحور عملية رفع جودة التعليم العالي في استقطاب كفاءات أكاديمية عالية ضمن السلك التدريسي في هذه المؤسسات، إلا أن المعضلة الكبيرة- من واقع تجارب- تتمثل في أن كبار الأكاديميين في الجامعات المرموقة عالمياً، لن يسمحوا لأنفسهم بالالتحاق بجامعات أو كليات مُتواضعة، ناهيك عن التكلفة العالية لاستقطابهم، والحل المتوفر حالياً للتوفيق بين استقطاب هذه الكفاءات وعدم تكبُّد الجامعات والكليات الخاصة لتكاليف باهضة للتعاقد معهم هو التعليم المدمج، فهؤلاء الأكاديميين مستعدون في كثير من الأحيان لتقديم محاضرات عن طريق التعليم الإلكتروني في هذه الجامعات والكليات مع حفاظهم على مقاعدهم في جامعاتهم الأم، فدافع تنويع الخبرات والاحتكاك بالثقافات هو ما يجعلهم يقبلون بخوض تجارب في مؤسسات أكاديمية خارج بلدانهم حتى ولو كانت جامعات أو كليات متواضعة، لذلك يوصى بأن تنتهج مؤسسات التعليم العالي في السلطنة هذا النهج لرفع كفاءاتها الأكاديمية بالتعاقد مع أكاديميين أكفاء من جامعات مرموقة على أن يكون نصيبهم التدريسي إلكترونياً، وبالتالي لا يستدعي الأمر وجودهم في أروقتها، وبهذا تستطيع هذه المؤسسات الأكاديمية أن ترفع المستوى المعرفي لطلابها بإلحاق أكاديميين أكفاء وفي نفس الوقت تستمر في نقل المعرفة عن طريق التعليم الافتراضي.

تعليق عبر الفيس بوك