مِتُ قبل ذلك!

عائشة السريحية

مرَّ وقتٌ طويلٌ منذ آخر لقاء لنا يا صديقي، تبدو بصحة جيدة، عدا هذه الندبة التي على وجهك، وتلك التي تمتد من رقبتك لصدرك، لا بأس بذلك يا صديقي؛ فالحياة لا تمضي دون جروح وآلام!

ما زلت تهتم بهندامك كعادتك، لكنك تعرج قليلًا.. حسنا فهمتُ، كانت إصابتك حين حاولت الطيران، لا تهتم لذلك يا صديقي، ما زلت قادرًا على السير؛ فالطيور ليست الأسعد على كل حال.

ماذا تقول؟ عيناي تتلألأن وكأنهما تقاومان انهمار الدموع؟

أنا لا أشكو من شيء يا صديقي، أنا في أفضل حال الآن.. ربما أعاني قليلًا من تلك القطرات التي تتسرب من محجري، فلا بأس بالنظر بعينين تجعل الأشياء الثابتة متحركة، أو ربما تلك النبضات التي تتعالى أصواتها من بعيد، ولكن صدقني لا أتعمد ضجيجها.. انظُر ها أنا ذا ابتسم.. ألا ترى؟!

تجاهل تلك الرعشة في جوانب فمي أو أرنبة أنفي.

ماذا؟ لست مقنعة؟ ولم لا؟ لأن وجهي أحمر ويداي ترجفان؟ آهٍ يا صديقي، إنه هذا الجسد الذي اعتاد أن يخذلني، فعندما أقول له شيئًا يفعل العكس، لذلك لا تصدقه.

أجل.. أجل.. يا صديقي، الجسد يخذلنا في أغلب الأحوال.

لا تهز رأسك ولا تعقد ذراعيك، أنت لا تعرفني جيدًا، لا تحاول مقاطعتي، فأنا أعرفُ نفسي أكثر منك، الخطيئة الأولى التي وقعت بها هي حين رأيتُ العالم من نظارتك التي ترى بها الآن، العالم كان يبدو جميلًا وبراقًا، لم أستطع أن أقتنص جوانب الشر عند البشر، دعني أكمل.. لا تتعجل بالمقاطعة، فلستُ على استعداد أن أدخل معك في جدل سفسطائي.

كنتُ مثلك تمامًا أقيسُ الأمور بوسطية ومثالية، هالة الخير عند البشر كانت طاغية، كلما رأيت بوادر شر بادرت باختلاق الأعذار.

لا زلت تقاطعني.. اتهامك غير صحيح.. لست عنيدة، كنت بسيطة لدرجة أني صدقت زيف أقنعتهم، وبريئة جدًا لدرجة أني اشتريت أفكارهم المعلبة، لماذا تنظر لأصبعي الصغير؟ لقد فقدته ذات يوم ولا بأس بذلك فالمرء يستطيع العيش بتسعة أصابع!

أجدُ صعوبة في فهمك، لا تتمتم هكذا، بالكاد أسمعك، هل لاحظت صيوان أذني لقد أخذوه يا صديقي، لذا لا أسمع سوى بأذن واحدة، لا.. لا.. يا صديقي، لقد أعرتهم إياه ولم يرجعوه منذ ذلك اليوم، لا تتعجب، ألم أخبرك أني كنت أنظر للعالم بنظارتك التي ترتديها الآن؟!

هل أشعر بالوحدة؟ يا له من سؤال يا صديقي.. ماذا تعني الوحدة؟ هل تقصد وحدة العقل أم وحدة الجسد؟ لم أعد أشعر بشيء الآن. ألم أخبرك بذلك من قبل؟ لكن قبل أن أودعك سأقول لك شيئًا: الوحدة يا صديقي لا تكون إلا عندما تسلِّم عقلك لهم، وبعدها يُدمن وجود كثرة الأصوات الخارجية، وحين تتوقف عنه يموت!

اسمع يا صديقي، هل ترى ذلك الحشد هناك، ألا يبدون مستمتعين جدًا وهم يتناولون وليمتهم؟ يبدو أنك الوحيد الذي لم يُدعَ لتلك الوليمة.. ماذا؟ جاءتك دعوة ورفضتها، يا لك من شخص غريب حقًا، لم أعد أؤمن بوجود بعض الأشخاص الذين يتحدثون مثلك، لا يا صديقي لستُ قاسية أبدًا، لكني لا أملك أي مشاعر، ألا تصدقني؟

أرأيتَ تلك النبضات الشاردة؟ نعم تلك التي كنت تسمع ضجيجها قبلًا، ألم تعرف مصدرها؟ حسنًا يا صديقي، انظُر للحشد هناك أرأيتَ وليمتهم؟ أمعن النظر، لا تصرخ يا إلهي.. ألم أخبرك أني لا أمتلك مشاعر لقد التهموها كمقبلاتٍ قبل أن يبدأوا بالوجبة الرئيسية. ماذا تقول؟ كيف يأكلون القلوب؟ لا تقلق أستطيع العيش دون قلب، فأنا يا صديقي مِتُ قبل ذلك بكثير!!