رواية جديدة تنشر "الرؤية" فصولها

شاهد من أهلها (1)

د. قاسم بن محمد الصالحي **

 

بدايةً أقول إنِّه، حينما أنهيت دراستي الجامعية، في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، كنت قد جلست واستمتعت برفقة صداقات دبلوماسية، وهم- كما يصفهم البعض في مهنتهم- على كرسي من الدرجة الأولى في مسرح الحياة، وهو وصف صادق حين يكون الدبلوماسي مُتفرجاً يراقب الأحداث وهي تتعاقب، ويُشاهد التاريخ وهو يُصنع، ولكن في حياة الدبلوماسي حالات يكون فيها هو بطل الرواية، أو موضوع القصة، فيجد نفسه في هذه المرة ليس على كرسي الدرجة الأولى الوثير؛ بل في قلب المسرح وقد سُلطت عليه الأضواء، وشخصت إليه الأبصار.

من الفترة ذاتها أتذكر أيضًا مصطلحات الحروب والخراب، المصائب والمحن، وقد تفتّت كبدي حين عرفت ما يعانيه من هو في هذه المهنة، كنت أروم هذه المهنة منذ زمن، وكنت أقدّم رِجلا، وأؤخّر الأخرى في انتظار أن يكون لي شرف الانتساب إليها، وبعد أن رسختُ فيها، وبلغت من الخبرة عتياً، تشجّعت للخوض في الكتابة عن متاهاتها وصروفها، وكنت متردداً حول عنوان ما سأكتبه، وقد خلصت أخيراً إلى العنوان الذي بين يديك أيها القارئ الكريم.

وقبل أن أشاركك موضوعي الذي أحدثك عنه، عليّ أن أخبرك شيئاً، فقد أخذت أقلّب الأمر في رأسي ذات اليمين وذات الشمال، أحاول أن أستكنه ما كان يدور في خَلَد الذين مارسوا هذه المهنة، فهؤلاء قوم ربما عرفوا ببصيرة ثاقبة كاشفة أمرا أغفل أنا عنه، وبعد بحث طويل اهتديت للحكمة الخافية؛ بأن الدبلوماسية لابد وأن تؤثر على القدرات الإبداعية للشخص، أجل فمن المعروف أن العمل الدبلوماسي من المهن الشاقة، ولا بد أن هذه المشقة هي التي تجعل المرء عاجزاً أمام ما يصاغ في مطبخها، لكن مهلا، أما كان يمكن أن أحاول ترميم ما يصيب عقلي، وأمنح نفسي فرصة للولوج فيها لأظهر حياداً إيجابياً انتهجه العُمانيون في قضايا عدة، ولأن واقعنا لا يخلو من أزمات، ولأنّ جمال الواقع ليس سببا كافيا للكتابة دوما، لذا لا بد إذًا من استفزازٍ يحرّك مياه الكتابة فيما بذلته الدبلوماسية العُمانية من جهد؛ لأن لذلك علاقة بالسلم العالمي.

وقد اخترت عنوان "شاهد من أهلها"؛ ليس لإبراز سر نجاحها فقط، بل لأنها أصرت على إنجاز جهدها متمسكة بمبدأ بناء السلام، فالحديث مكرس عن الثبات في المبدأ، والخطوة والسير على المنهج، لذا سأستمر بمشاركتك الأفكار وأطلب منك في المقابل أن تسديني خدمة تتبع فكرة طرحي كشاهد.

لقد جاءت الفكرة حينما طرحت السؤال على نفسي، وبدأت في وضع منهجيته وتحديد مضمونه، منطلقاً من أن علاقات عُمان الدولية كانت وستبقى موضوعاً بالغ الأهمية ومثيراً للمتابعة والمراقبة، طالما أن هناك منهجاً سياسياً متزناً، وطالما أن هناك دبلوماسية رصينة لها مكانة وحضور بارز، تعتمد على مبدأ أزلي قائم على صنع السلام عبر الحوار والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في شؤون الغير، وهذا ما أكد عليه سلطانها حضرة صاحب الجلالة هيثم بن طارق المجدد لنهضتها. 

إن هذه السيمفونية هي نتاج لما تقوم به المدرسة العُمانية من دور مميز وهام في نطاق العلاقات الدولية وتدعيمها، ومعالجة كافة الشؤون التي تهم السلم والأمن الدوليين، فقد قامت وتقوم بالتوفيق بين المصالح المتعارضة ووجهات النظر المتباينة، وتيسير حل المشكلات، وتسوية الخلافات، وإشاعة الود والتفاهم، كما استطاعت أن توطد مركزها، وتعزز من مكانتها في تدعيم السلم العالمي وتجنب الحروب، وتمثلت مدرستها الرصينة بمراقبة مجريات الأمور والأحداث بحيادية إيجابية، بالتوازي مع حماية مصالحها بالتفاوض في كل ما يهمها؛ لقناعتها بأن الدبلوماسية تستطيع أن تسود دون ربطها باستخدام القوة؛ لأن الحروب هي فشل للدبلوماسية أكثر من كونها مكملة لها.

وبالرجوع إلى شهادتي، لا بد من التأكيد أنه ووفق المنهج الذي تعلمته، وجدت أن الدبلوماسية العُمانية تنظر إلى مجمل القضايا الدولية والإقليمية من منظور العقلانية والواقعية، حتى أن المنحنى الذي اتبعته خلال الأيام العصيبة التي مرت بها كان متوافقاً مع هدف إقامة دولة عصرية ضمن الحدود الوطنية، وهذا الموقف الرافض للنزاعات المغامرة والتوسعية والمتمسك بالاستقلال، ترك بصمته على سلسلة التطورات التي حققت لها الاستقرار وثبات المبدأ.

الكثيرُ منا يخدعه الأسلوب، حينما يقال إنّني أنتمي إلى مدرسة ما، أو تأثرت باتجاه ما، فيظنّوا أنني متخصص حصرًا في الأمر، وكم تكون صدمتهم عظيمة حين يعلمون أنّ العُمانيين جميعهم لا يميلون للتجريب والخروج عن القاعدة، فهذا جزء من تكوينهم، ببساطة هم قوم يأبون أن يكونوا نُسخا، بل يقومون بدور أصيل في بناء الثقة كأساس قوي لتدعيم العلاقات الدولية، في ظل سياق دولي يتسم بتداخل المصالح، ولقد تمسكت قيادتهم بمبدأ محراب المسجد الذي نشأت عليه قبل بيوت العلم، والأخلاق قبل النطق، ومكارم الصفات قبل الملك والجاه، على أساس أن قضية الحقوق هدفا وغاية للقانون الدولي المعاصر، مؤكدين على المكانة التي تحظى بها هذه القضية في توجيه السلوك نحو سياسة المفاوضات وعقد الاتفاقيات السلمية الضامنة لإقرار السلام العالمي، على اعتبار أن السلام أرضية خصبة لتجسيد حقوق الإنسان في الواقع الدولي، سيما في ظل اختلال توازن القوى في المجتمع الدولي المعاصر، وعدم فعالية المرجعيات القضائية وهيئات التحكيم الدولية، التي لا تتسم أحكامها غالبا بالمصداقية والفعالية لدى التعامل مع الكثير من الخروقات للمواثيق الدولية، فضلا عن غياب السلطة التي تتكفل بإرغام الأطراف على الإذعان لقواعد القانون الدولي، دون التأثر بظاهرة الكيل بمكيالين والتي أضحت معولًا هداماً لمجهودات منظمة الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان والشعوب، وبذلك يتضح أن دور المدرسة العُمانية يعتبر عاملا حاسماً في ضبط السلوك، والدفع إلى عقد المعاهدات السلمية كأساس لبناء الثقة بين أشخاص القانون الدولي؛ مما يساعد في تدعيم العلاقات الدولية وتعزيز حقوق الإنسان في المسرح الدولي.

وإنني عندما أخبركم شهادتي الراهنة، سواء في نجاح الدبلوماسية العُمانية في قضية ما أو في غيرها من القضايا على المستوى الإقليمي والدولي، فإني أروي قصة أوسع عن جغرافية السياسة العُمانية، كونها لا تترجم فقط المكانة التي تحتلها عُمان في نادي الدبلوماسية الدولية، والتي بوأتها منصة صلبة للحوارات الدبلوماسية والمفاوضات السياسية، وإنما لأبرهن عن مدى فعالية ومصداقية المؤسسات العُمانية في تحملها لدورها الدولي وانخراطها التاريخي الجاد على مستوى الخريطة السياسية الدولية، فالانخراط العُماني على مستوى منظومة التعاون الاستراتيجي الدولي ينبني على مبدأ الاحترام المتبادل، والسهر على الالتزام بتنفيذ دورها الإقليمي؛ مما مكنها من تنويع آليات التعاون مع مختلف الأقطاب.

كثيرون منّا - ما زالوا- يسقطون قصص مسيرتهم على كل ما ينكّد عيشهم، وأنا لا أجد لقصتي إلا شعورا لائقا، لذا سأسميه بشعور النجاح، ولا أريد تحليل أسباب هذا النجاح، ولا لعن عثراته، ما أريده هو أن أستدعي الديناميكية التي طورتها عُمان، والعمل على التقيد بمبادئها رغم التقلبات الجيو - استراتيجية والحسابات السياسية، والتي جعلت منها مصدرا موثوقا على المستوى الدولي، ومرجعية إقليمية في مجال العمل الدبلوماسي، والاستقرار السياسي والتنمية المستدامة، هذه العوامل كلها، بالإضافة إلى الأوضاع غير المستقرة في البلدان المجاورة وضعف الرصيد السياسي الإقليمي الدّاخلي وتراجع أسهمه الدولية، جعلت من القوة الدبلوماسية العُمانية الأولى في المنطقة على مستوى التعاون الاستراتيجي، هذا التوجه الذي تسعى دائما عُمان للدفاع عنه والسهر على تطبيقه، وهذا يُعد نقطة قوة وتميز دبلوماسي، بعيداً عن العديد من المنصات الإقليمية التي تُجيد الحسابات السياسية أو الدخول في تطبيق أجندات خارجية على حساب القضايا الجوهرية للنزاعات، الأمر الذي يقودنا إلى أن نسقط على شهادتي كل ما يفرح عيشنا في العوامل التي مكنت الدبلوماسية العُمانية من نجاحاتها المتتالية في العديد من القضايا.

*****************************************

** "شاهدُ من أهلها"

يغوص سعادة الدكتور قاسم بن محمد بن سالم الصالحي سفير السلطنة لدى جهورية تركيا الصديقة، في أعماق الدبلوماسية العُمانية، في كتابه الجديد "شاهد من أهلها"، والذي تنشره "الرؤية" على حلقات في هذه المساحة.

وقد استخدم الصالحي أسلوب السرد الذاتي بما يعكس عبقرية التجربة وصدقها، موظفًا الأسلوب الأدبي الرشيق المُفعم بالعبارات الفصيحة، المُعبِّرة عن مكنون الأحداث وتفاصيلها. وتفاديًا لأي مللٍ قد يتسرب إلى القارئ، نجح الصالحي في توظيف عدة أدوات سردية، فتارة يُجري المؤلف- باعتباره الراوي العليم- حوارات مُباشرة ومفتوحة مع القارئ، وتارة يتنقلُ بين التقنيات الحكائية بحرفية، تطوف بنا في عوالم السيرة الذاتية.

والدكتور قاسم الصالحي، سفير وكاتب من مواليد 27 مارس 1963، تدرج في العمل الدبلوماسي، حتى وصل إلى منصب سفير، ويهوى الكتابة والتأليف، وكثير الاطلاع على الآداب بفروعها، كما إنه قارئ نهم، تشرب من مختلف الينابيع الفكرية.

وللصالحي مؤلفات عدة؛ من بينها: "الدبلوماسية العُمانية وتحديات العولمة"، و"زماني الجميل"، و"فكر الحوار المفتوح"، و"الذات محور التنمية"، و"سلطنة عُمان والمنظمة العالمية للتجارة.. أثر الانضمام"، و"العوامل الأساسية في تاريخ الدبلوماسية العُمانية"، و"كنت هناك".

تعليق عبر الفيس بوك