فنون الدول المتقدمة.. العمران والإتقان شريكا المواطنة

صالح بن أحمد البادى

salehalbadi555@gmail.com

نعلم أنَّ العالم المُتقدم تقدم بمهاراته ثم تقدم بإيمانه القوي بالنجاح الذي يُريد أن يحققه. كما أنه آمن بأن النجاح والريادة لا تتحقق ما لم تصنع لها ممكنات وأول تلك الممكنات هو الإنسان نفسه، سلوكه وإنتاجه وإتقانه وأمانته وإبداعه وتقدمه وريادته. وبدون إنسان متسلح بتلك السلوكيات فإنَّ خيرات التجديد ستمر عليه ولكن استقطابه لآثارها وفوائدها يكون سالباً لأنه دائماً ما يبحث عن الزلة والنقص فينشغل بذلك لينتبه لنفسه متأخرًا وعندها هيهات فالندم وعض الأصابع سيشكلان مع ليت وياريت ولولا وواسفاه فريق سكون وتقهقر وانكماش.

والسلوك الإنتاجي وعامة السلوك والذي تميز به الإنسان وبرع في صياغته وسلوكه وتكوين خلاياه الناصعة بينهم، لكن البعض في تحليلي وتقديري آثر السكون على التجديد والتجدد وصاغ السلوك بمعناه المحدود وأثره المتردد.

إلا أن السلوك الإبداعي الإنتاجي وفق ممارسات صحية صحيحة يحتاج لتوكل مكين ولعمل دؤوب متواصل نشط باتجاه ممارسات عالمية تنافسية. كما يستوجب أن نعمل عليه بهمة عالية ليس فقط إنتاجا من منظورنا ومفهومنا بل من منظور ومفهوم أفضل ممارسات العالم في الإنتاج والإبداع والتفرد بالمقدمة، فمعاييرنا للعمل ليس كلها صحيحة أو دقيقة تخطيطا وتنفيذا ولا كلها إنتاجية ولا ضير في ذلك إن أقبلنا على التجديد والتجدد بقلوب تتسع لقبول مكونات ومعطيات النجاح الاستثنائي المبدع.

ولنتأكد أن كثيرًا من معطيات الإنتاج ليس شرطا توافقها لأفضل ممارسات العالم لذلك وجب التجديد والتهذيب والإبداع وسط عالم إنتاجي منافس وسريع والتفاعل الصحيحين لعالم متقدم ومبدع ومتجدد ومجدد وتوقيته سريع ومركز.

ما زلت أتذكر أنني ذهبت في مهمة عمل إلى كوريا الجنوبية قبل سنوات تزيد على العشر لاطلع على إنتاج واحدٍ من أشمل وأسرع شعوب العالم نموا وإنتاجا والذي بنى اقتصاده بين دفتي منتجى العالم عبر استيراد المواد الخام من جهة وبين مستهلكي العالم الذي يصدر إليهم الإنتاج الكوري الجنوبي النبيل من جهة أخرى. ورأيت فيهم نشاطا وهمة عالية جدا وعمل استثنائي بكل ما تحمله الكلمة. ورغم أن اللغة الإنجليزية محدودة عند كثير من بين مقدمي الخدمات لكنهم استعاضوا عن ذلك بالتكنولوجيا المتطورة وتحويلها لبرامج تقدم خدمات مباشرة متكاملة. إنه الإبداع الكوري في أبهى صوره وأزهى عطائه. قبل عشرين سنة يطلب منك سائق التاكسي أن تدفع له عبر مجموعة من وحدات أجهزة الصرف الإلكتروني والتي تصطف أمامك حسب نوع بطاقتك الائتمانية بسيارة التاكسي وتغادر سيارته مع نصف ابتسامة منه. في بعض الحالات لا تستطيع أن تفهم منه جملة لكن أجهزة التفاعل المباشر تلعب دورًا لتلغي تلك الفجوة اللفظية واللغوية لتصنع الآلات والمعدات لغة خطابية وافية شافية بين المتعاملين من أقطاب المعمورة.

قبل أن نحط في كوريا الجنوبية قضيت عدة أيام في هونج كونج لحضور ورشة عمل مع تقديم ورقة عمل في شأن معايير المالية المتقدمة وأثرها في بيان الحسابات المالية للشركات والمؤسسات. ورغم أنني كنت من القلة الذين يستخدمون الآلات الحاسبة اللوغاريتمية دون أن أنظر إليها مباشرة نهائياً نظرًا لكثرة استخدامها وكذلك جهاز الحاسب الآلي وكنت متيقنًا أن الورشة ستشمل مشاركات مجموعات العمل وكنت الوحيد من العالم العربي، لكن حدث أن شاركنا شخص بدرجة مسؤول من الدرجات العليا في الشركات من كوريا الجنوبية في الورشة المقامة في هونج كونج وأذكر أنه كلما طرح موضوع للنقاش أو للإجابة وفيه من المُعطيات والفورمولا الكثير كانت غالبيتنا الساحقة لا تزال تضع المعطيات الأولى للحل فيما كان صاحبنا الكوري قد أكمل حل مدخلات النظام المالي كاملة ووضع نهاية لسؤال المجموعة بسرعة عجيبة وتركيز عالٍ. وأضحينا ننتظر فقط السؤال ولا نبدأ لأنه فى ثوانٍ قد أنهى حل المعطيات وحولها لمدخلات بل واقترح أكثر من خيار وبثوانٍ لاحقة أعطى نتيجة نهائية لأثر المدخلات المتعددة على النظام المالي فيما نبقى نحن مندهشين وساكنين كان على رؤوسنا الطير وأنا شخصياً كنت ممن أظن أنني ممن يأتون بالنتائج الأولية في الدراسة التخصصية والدورات التخصصية المالية، لكن ذلك البهلوان الحسابي الكوري السريع لم يكن بيننا هنا أو بالمنطقة وإلا أصبحت ممن في ذيل القائمة.

إنِّها حقيقة مخرجات أفضل مُمارسات العالم مجتمعًا وتعليماً وسلوكا وتهذيبا وتركيزا والتي صنعت منهم أنموذجا عالميا منافسا وشرسا عندما تتحدث عن جانب المالية والتخصص المحاسبي في ذلك الوقت كمثال فقط. كما إنه هو وأمثاله من الكوريين الجنوبيين هم منافسين شرسين في الصناعة والإنتاج والتقدم ولريادة.

لو لم يتمكن الكوريون- مثلًا- من الإرادة والعلم والفهم والتقانة والإيجابية المطلقة والعمل الجاد المركز، لكانوا مختلفين عما هم عليه الآن، ماذا لو ظلوا في فقرهم وتردي حالهم قبل 25 عامًا، راغبين في أن تسقط عليهم الميزانية السنوية خيرها العميم، أو أن تتحرك شماعات القيل والقال لتصنع لهم مستقبلهم.

لكننا نقول كيف استطاعت كوريا الجنوبية وهونج كونج وأمثالهم كسنغافورة قيادة العالم إنتاجا وصناعة وخدمات وسعرا وجودة....إلخ إنها منظومة السلوك والمهارات الإنتاجية والخدمية التي صنعوها بينهم إبداعا.

التركيز على فراسة المهارات وصناعة التحديات والجد في صناعة الأهداف بلا تردد. حددوا الاتجاه وضبطوا الإيقاع وتقدموا جدا وإبداعاً وإنجازا.

التوجيه القرآني الذي حضَّ على العمل وفق أفضل محفزات الأداء وأمانة التنفيذ العالية ففي قوله تعالى (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها). صدق الله العظيم صورة محددة لهدف الإنشاء وهو الإعمار وهو تفويض ومسؤولية واضحين بعمرانها وأضحى واجبا ملزماً ثابتا. بل ووجه جل وعلا الإنسان توجيها صحيحاً ليبدع ويعمر الأرض. ولا تعمر الأرض عواطف وعموميات بل يعمرها أرباب تلك السلوكيات الإنتاجية والمهارات الإبداعية والتي تقدم وتصنع أهدافا محددة.

والتعمير كلمة لغوية عظيمة أكبر وأشمل من البناء بل يوجد بها عنصر الاستدامة. فالعمران بقاء مستدام. ويأتي حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن إتقان العمل. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) وذلك توضيح صريح للهدف وهو الإتقان. والاتقان أعلى درجات العمل التام الصحيح.

لذلك فإن الاقتناع التام بأفضل الممارسات ووفق أفضل درجات الإتقان يجعل الإنسان والمجتمعات والأمم تتقدم بل وتصبح في مقدمة الركب العالمي تقوده وتؤثر به أكثر مما تتأثر به وتصنع نماذج نجاح عالمي next practices أكثر مما تجذب نماذج جاهزة لتشكل أجزاء بسيطة منها وتعيدها كنماذج متقدمة next practices يستفيد منها العالم أجمع.

وإن ذلك يحققه انفتاح مكتمل على العالم أجمع وليس انتظار شراكات وفق عقول محدودة تقبل بعضاً من الآخر. علينا تقبل الآخر والاستفادة من مكامن قوته والتعاون معه بلا قلق ولا تردد لبناء وتطوير مناطق التوافق على المستقبل لتكون داعمة أكثر لمناطق القوة والتعاون والتكامل أفرادا ومؤسسات وتقليل آثارها السلبية والبناء لمستقبل أروع للجميع

علمنا ديننا معيارين هامين هما تعمير الأرض والعمل بإتقان ولننظر فمن وجد نفسه حقق أفضل المعيارين فليستمر مبدعًا ومنتجاً وليجد في تقدمه ومن وجد نفسه غير ذلك فيحتاج فقط الإرادة للتحول للجانب الآخر من الشط وليحقق أفضل صفات وسلوكيات المعيارين لأنهما سبيله ليكون رائداً إنتاجا وإبداعا وسلوكا فيما يجعلنا نتجه كالسهم المركز باتجاه أن نكون في مصاف الدول المتقدمة.