لا تعيدوا اختراع العجلة!

د. صالح الفهدي

يقول كيشور محبوباني وهو دبلوماسي سنغافوري سابق وعميد كلية لي كوان يو: "قال لي الدكتور جو كينج سوي (Goh Keng Swee)  لا يهم ما هي المشكلة التي تواجهها سنغافورة، هناك أحدٌ ما، في مكان ما قد أوجد حلاً لهذه المشكلة". وقد كان هذا سرُّ تقدُّم سنغافورة في شتَّى المجالات؛ إذ إنها كانت تحتذي بتقدم الصين واليابان، ثم غدت تُصدِّر للصين خبراتها، التي تمثِّلها اليوم مدينة الصين- سنغافورة China-Singapore Guangzhou Knowledge City، وهي مدينة أنشأتها الخبرة السنغافورية، ذلك لأن سنغافورة لم تعد اختراع العجلة وإنما نظرت إلى العجلة وطوَّرتها وأضافت عليها.

والذي عطَّلنا في الكثير من المجالات وجود عقليات تريد اختراع العجلة، أي أنها تريد أن تخترع حلولاً لمشكلات واجهتها دولٌ أُخرى فأوجدت لها حلولاً بعد تجارب أو بعد نقلها- ربما- من دولٍ أُخرى..! هذه العقليات تعطِّل التنمية، بل وتهدر الأموال في غير وجهتها الصحيحة.

هذه العقليات لا تؤمن بأنَّ المعرفة تراكمية وتكاملية، لا تؤمنُ بأنَّ التطَّور في العالم إنَّما هو عبارة عن (قيمٍ مضافة) كلَّ إنسانٍ يضيفُ إلى اختراعٍ سابق، وكلُّ دولةٍ تطوِّر في تجربةٍ سابقة، والصورة الكبيرة فيه هي كرة الثلج التي تكبر بتدحرجها من أعلى التلَّة.

أمَّا البعض فلا يريدون أن يستنسخوا تجارب الآخرين؛ تقولُ لهم: هذا نظامٌ يوفِّرُ عليكم الطاقة والجهد والوقت وهو ناجحٌ في تلك الدولةِ فاستفيدوا منه، فيعرضوا عنك..! تقول لهم: هذا برنامج معلوماتي يختزلُ لكم الإجراءات الإدارية تستخدمه المؤسسة الفلانية في الدولة الفلانية فطبِّقوه لتحصدوا نفس الثمار التي تحصدها تلك المؤسسة، فيتأتأون بـ"لكن" و"لكن"..! تقول لهم: تلك دولةٌ استفادت من جبالها فملأتها بالمرافق الحيوية المطلة على البحار، وتلك دولةٌ استفادت من خلجانها فملأتها مرافق سياحية، وتلك دولة استفادت من موقعها الإستراتيجي على بحرٍ أو خليجٍ، أو استفادت من مميزاتها الطبيعية، سيقولون لك: لكننا نخطط لشيءٍ أعظمُ من ذلك..! 

لماذا علينا أن نعيد اختراع العجلة في مجالاتٍ مختلفة ولا نستورد حلولاً ناجزة، جاهزة ما علينا إلا أن نطبِّقها خير تطبيقٍ مستفيدين من سلبيات وإيجابيات التطبيق لهذه الحلول.

من المعلوم أن المسلمين الأوائل قد استفادوا من حضارات الأمم كالحضارة الفارسية والرومانية واليونانية والهندية والصينية، فدرسوا علومها، واطلعوا على نتاجاتها، واستلهموا من أفكارها ثم أضافوا إليها ما يتناسب مع حضارتهم الإسلامية في جوانب علمية ونظرية، وهكذا استفاد الغربُ بعد تخبطهِ في عصور الظلام من نتاجات المسلمين في شتى العلوم الطبييعية والإنسانية.

بعض العقليات رغم أنها ترى بأمِّ عينها حلول الآخرين أمامها، إلا أنها تكابرُ في الاستفادة منها، وتصرُّ على أنها تملك حلولاً سحريةً لمشكلاتها، وهكذا تبقى المشكلات عالقةً، تلتصق بها صفة "المزمنة"، وحين كنتُ أناقشُ أحد أعضاء مجلس الشورى عن أمرٍ ما فأسأله: لِمَ لا تتم الإستفادة من الحل الفلاني، يردُّ بأن سبب ذلك قناعات بعض المسؤولين التي تقفُ عائقاً أمام الإستفادة من الحل الذي أثبتَ نجاحه في بلادٍ أُخرى!

الإنغلاق الفكري لا يقود إلاَّ إلى المكوث في ذاتِ الدائرةِ، بل يؤدي إلى النكوص والتراجع. حينما زار مهاتير محمد البلاد كتبتُ منشوراً أشيدُ به كزعيم تاريخي وصاحب فكرٍ قيادي خلَّاق، فجائني النقد من أستاذ جامعي يتخرَّج على يديه من يعوَّل عليهم تقدم وتطور الوطن، قال: من هذا مهاتير الذي تشيد به، وما الذي سيقدمه للعمانيين، وما الخبرة السياسية التي يملكها بعد أن اعتزل السياسة منذ سنين..! مثل هذا (الأُستاذ الجامعي) لم يكن ليبصِّره ردي على من هو مهاتير، إنَّما بصَّره مهاتير نفسه به بعد أن عاد إلى رئاسة الوزراء واستطاع أن يكسر الطوق التاريخي الذي ضربه الحزب الوطني لستين عاما في حيازة السلطة في سنغافورة.

خلاصة الكلام: إننا إن أردنا أن نتقدم ونتطور فيجب علينا أن لا نعيد اختراع العجلة، وإنَّما أن ننفتح على تجارب الأُمم، ونستفيد من حلولها، ونستلهم من أفكارها، ونرسل البعثة تلو الأخرى لتأتينا بالدروس الملهمة، والحلول الناجعة، ونستقدم كل من يملك حلاَّ لهذه المعضلة أو تلك قد أثبتَ نجاحه في مكانٍ ما، هكذا فعلت العديد من الدول دون أن نحصي ذكراً لها، ونجحت، بل وتفوقت على الدول التي استنسخت منها الحلول، ونقلت عنها التجارب.

إن أردنا أن نتقدم فعلينا أن نمكِّن أصحاب العقليات المنفتحة على تجارب الآخرين، الباحثة عن حل كل مشكلة ولو كان في آخر أصقاع الأرض، المتصلة بالعالم تتابع ما أنجز في المجالات المختلفة، وأن نتخلَّص من الذين يريدون إعادة اختراع العجلة، فيعطِّلون وطناً بأسره وهو ينتظر العجلة التي يخترعونها!!