تأثير جماعة الرفاق على التنشئة الاجتماعية

 

د. رضية بنت سليمان الحبسية

أستاذ الإدارة التربوية المساعد بجامعة نزوى

 

التربية عملية اجتماعية مستمرة، تهدف إلى تنمية الفرد التنمية المتكاملة، لتشمل جوانب الشخصية الإنسانية العقلية، الاجتماعية، الجسمية، والنفسية، في إطار قيم الجماعة التي ينتمي إليها الفرد ذاته. والتي تفرض عليه الالتزام بها نظير انتمائه لها. وكما هو معلوم تعدد القنوات والجهات التربوية، لتشمل الأسرة، المدرسة، الرفاق، الإعلام، المسجد، والأندية التربوية. إلا أنّ المقالة الحالية ستركّز على تأثير جماعة الرفاق على عملية التنشئة الاجتماعية للفرد.

تُعدّ جماعة الرفاق، كأحد الأوساط الاجتماعية التربوية بين المجتمع والفرد، وسيطًا مهمًا؛ خاصة في ظل الاندماج والانفتاح العالمي، والقولبة المجتمعية التي تسعى إليها بعض الدول المهيمنة سياسيًّا واقتصاديًّا. إذ يمكن أن تلعب جماعة الرفاق دور الجسر الذي يعبر من خلاله الفرد إلى عالم مغاير لعالمه الذي نشأ فيه، بكل سهولة ويسر، وفق مخططات مؤسسية عابرة للقارات، متجاوزة للحدود الدولية، والمرجعيات الدينية والقيمية. حيث يتم تمرير أفكار دخيلة، وقناعات مضادة للدين والعُرف والتقاليد، مما يولد صراعات بين وسائط التربية المختلفة، في طريق سعيها للقيام بأدوراها الموكلة إليها .

ومما لا شك فيه، أنّ لجماعات الرفاق والأقران من المسببات للشذوذ عن جادة الحق والصواب، أو الإنحراف عن مسالك الطريق القويم، بما يوجهها إلى مزالق يشوبها الضلال، والغواية، ويجملّها بشعارات الحرية والاستقرار. ومن أكثر تلك المسببات خطورة على الشباب خاصة، هو الفراغ، وغياب الممكنات المجتمعية لاستغلال طاقاتهم وحيويتهم، واستثمار الإمكانيات المادية المتاحة لديهم، وعلى وجه الخصوص تلك التي تسهل وتذلل عراقيل التواصل أو التأثير السريع على العقول والأفكار. فتعمد تلك الجماعات الشاذة إلى غزو الأفكار الكامنة في العقل اللاواعي كمدخل للتأثير على الفرد وتوجيه سلوكه، بما يخدم مصالحها وينفذ مخططاتها، مستغلة الفجوات والشروخ الداخلية التي يعاني منها كثير من الناس.

إنّ العالم وما يسوده من فرص وقنوات لانصياع الناس لكل ما هو جديد، أو مستحدث؛ بواقع الفضول، أو نتيجة الدخول في حوارات غير محسوبة، أو عبر فضاءات تضعف القوى التي يستند إليها، وبما أُوِتِيت الأطراف الأخرى من أدوات الجدال غير المشروط بمرجعية مؤسسية أو أحكام إلهية، حتمًا سيجر خلفها قوافل على اختلاف ثقافاتها وتنشئتها الأسرية، أو نوعية تعليمها، أو بتباين تأثير وسائل الإعلام المحلية والعالمية، مُشَكِّلَةً شبكات افتراضية ذات انتماءات رجعية يصعب السيطرة عليها؛ لعدم إنتمائها لدولة مُعترف بها، أو مؤسسة رسمية يحتمون بها. وهي من الخطورة ما يفوق خطورة الانتماءات الأنثربولوجية أو الأيديولوجية على مستقبل الدول وأمنها واستقرارها.

وما نعايشه اليوم من تنامي أفكار، وجماعات تناهض من أجل إقامة كيانات خاصة مستقلة لا تنظمها قيم، ولا تؤطرها أديان، يُمثل خطورة على تماسك المجتمع الواحد. ومما يُضاعف حدة التوتر والاضطرابات القائمة تجاه الآثار السلبية للشللية وجماعات الرفاق، يتمثل في سيطرة التكنولوجيا وشيوع الوسائط التفاعلية، وسهولة الانضمام إليها، خاصة في ظل تعقّد الحياة وغياب دور الأسرة التربوي؛ نتيجة الانشغال بأمور حياتية أخرى، مما فسح المجال أمام الكثير من الحركات والتكتلات للدخول بلا استئذان، والمشاركة في تربية الناشئة بدرجة أكبر مما كان عليه الحال في العقود الماضية.

وتقوم جماعة الرفاق أو جماعة الأصدقاء بأدوار جمَّة في تربية النشء، وذلك بإكسابهم المعارف والمهارات والاتجاهات الشخصية، العقلية، الاجتماعية، والثقافية. وفي خضم تلك العملية التربوية والتدريبية، ينتج عنها أشكال وصور من التأثير المباشر غير المباشر، الذي يفضي إلى تباين في المفاهيم واعتناق القيم، وتغير في السلوك والتطبيق. ومع التسليم بأنّ ذلك التأثير بقطبيه الموجب أو السالب، ليس بالجديد، حيث سطرت المؤلفات والمخطوطات من الظواهر التي تعاقبت على البشرية منذ الخليقة، ما يشير إلى قوة العُصبة التي تكونها تلك الجماعات، إلا أن التزايد في التأثير حدة، والتضاد توجهًا، بفعل محركات العصر التي جعلت من العالم بلا أسوار، وفي تفاعل تخطّى عاملي الزمان والمكان بدرجة غير مسبوقة، أفرز قلقلًا مجتمعيًّا على مستقبل الأجيال وملامح المجتمعات بشكل عام.

وتؤدي جماعة الرفاق أو الأقران مهامًا ووظائفَ تربوية متعددة، يسفر عنها آثار إيجابية في مجال التنشئة الاجتماعية، كضبط سلوك الفرد في المواقف المختلفة، وذلك بخضوع الأفراد للمعايير التي تحكم الجماعة التي ينتمي إليها. ونظرًا لقوة التأثير الذي تمارسه تلك الجماعات بما يفوق تأثير الأسرة في حالات كثيرة، فإنّ حسن اختيار الرفاق عامل مُحكم لتحقيق آثار محمودة لتشكيل الشخصية السويّة، وتنشئة أجيال يُعتمد عليها في قيادة الأُمة، وحفظ موروثاتها من الاندثار أو التدنيس، وتنقيتها من الشوائب، ونقلها للأجيال القادمة بأمانة وموثوقية.

وحيث إنّ الصُّحبة تتيح فرصة المحاكاة والتقليد للسلوك، وتجريب الجديد وفق المستحدث من معايير، بدعم عميق من منسوبي الجماعة الواحدة، فإنّ الانتماء الآمن لتلك الجماعات يستوجب التسلح بأدوات التواصل وتقنيات التفاعل العصرية، واكتساب المهارات الفردية الأساسية، والتطبيقية، والتقنية كالتمكن من اللغات العالمية، وإتقان البرامج الحاسوبية والإلكترونية، والمحاكمة العقلية التي تضمن تكوين الشخصية المتوازنة، القادرة على التعامل مع المتغيرات العالمية، وتمحيص ما تفرضه التكنولوجيا من مؤثرات، دون الذوبان في ثقافات ناشئة تدعو إلى الفوضى، وفقدان الهوية.

في الختام: تسعى مجتمعات اليوم إلى تنشئة أفرادها التنشئة السليمة التي تجعل من أبنائها مواطنيين صالحين، قادرين على مواجهة أعاصير التغيّر العالمية، وفق رؤى شاملة. كما أنّ تجدّد وسائل وأساليب الغزو الفكري، تجعل مؤسسات وقطاعات المجتمع في حراك مستمر لضبط تأثيرها؛ بهدف تحصين أبنائه عبر محطات حياتهم المختلفة؛ لصون المجتمع من الشقاق وحماية أفراده من الفتن.

ولن يتأتى لأي مجتمع الحفاظ على حصانة أبنائه إلا بتوفير بيئة خصبة لإنتاج عقول لا تحيد عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتقوية مؤسساته؛ للعمل وفق الموجهات والسياسات الموّحدة التي تقود إلى مجتمعات عصرية قادرة على التفاعل مع العالم المحيط، دون التنازل عن الثوابت الدينية التي تحفظ للمجتمع كرامته وقيمه الأصيلة.

تعليق عبر الفيس بوك