الوطن ليس سجنًا

 

مسعود الحمداني

samawat2004@live.com

 

ضجّت أصوات النَّاس، وتعالت هتافاتهم، وضجروا من "الحبس المنزلي" حتى قبل أن يبدأ، وظنوا أنَّها نهاية العالم، لأنَّ "الشواء" لن يُصنع في التنّور، ولأن "المشاكيك" لن تكون بالطريقة التقليدية، ولأنهم لن يقوموا بزيارات الأهل والأصدقاء، ولأن مظاهر العيد ستختفي هذا العام، فتكدّسوا في المحلات والمجمعات قبل يوم من الإغلاق، وجمعوا ما يحتاجون، وما لا يحتاجون، ضاربين بقرارات اللجنة العُليا والإجراءات الاحترازية عرض الحائط، ظنا منهم أن الأربعة أيام التالية ستكون وبالًا عليهم، وأنها ستكون دهرا، وأنهم لن يستطيعوا توفير قوت يومهم إن لم يدخّروا للأيام العجاف!!.

أربعةُ أيام فقط كانت أيامًا صعبة، وقاسية على الكثيرين، حُبسوا بين أربعة جدران، تناسى هؤلاء أنهم سيقضون أيام العيد بين أهليهم وأبنائهم وزوجاتهم، وأنه يحق لهم الفرح، وعمل الشواء والمشاكيك، واللعب مع أطفالهم، والاتصال بأصدقائهم وأرحامهم، وأن العيد الحقيقي هو أنهم في خيرٍ ونعمة ما داموا ينعمون بالصحة والعافية، وأنهم يرون الشمس، ويسهرون مع النجوم والقمر، وأن حياتهم لن تتوقف إن هم غيّروا بعض مظاهر العيد ولو لمرة واحدة في العمر، وأن الأيام الأربعة ستمضي بيسر وسلاسة، وسيعودون بعدها لحياتهم الطبيعية.

لم يخطر ببالِ الكثيرين، ولم يتأملوا أولئك المسجونين سجناً حقيقياً بأحكام قضائية بسبب دَين بنكي، أو تعسّرِ أحوالهم التجارية، أو بسبب هروب شركائهم الوافدين، أو بسبب شركةٍ لم تستطع تسديد ديونها، أو بسبب أقساط لم يستطيعوا سدادها لشركات التمويل، فحُكم عليهم بالسجن مع مجموعة لا يعرفونها، ولا يتآلفون معها، بعيدًا عن أسرهم، وأولادهم، وأحبائهم، يذرعون فراغات السجن لأشهر وسنوات، يعدّون الأيام كي يروا النور، ويخرجوا إلى شمس الحرية التي حُرموا منها، وقد يُتوفى أحبتهم وهم في السجن لا يستطيعون تعزيتهم، أو دفنهم، أو مواساة أهلهم.

لم يخطر ببالِ الكثيرين، أولئك المرضى الذين يرقدون في المستشفيات، تحت وطأة الأجهزة، يُصارعون الموت، ويتنفسون الأمل دون طائل، ويكابد أهلهم معهم ذلك الوضع الذي لا هو موت، ولا هو حياة، لا يملكون غير الدعاء، والأمل بالله الذي لا ينقطع، ويذرفون دمع الألم والرجاء، ويبيتون الليل بعيون مفتوحة، ينتظرون الفجر والفرج، ليلهم طويل، ونهارهم أطول.

أربعةُ أيام مرت ثقيلة، وبطيئة، كقيدٍ يقيّد معاصم النَّاس، جعلت الجميع ينتظر "صافرة النهاية" كي ينطلقوا إلى حياتهم الطبيعية، بينما هناك مئات المسجونين والمرقدين في المستشفيات الذين يعدّون الأيام والليالي كي ينعموا بنظرة- ربما أخيرة- على أطفالهم الذين تركوهم، وعلى زوجاتهم اللاتي يُعانين نار فقدهم، وعلى أمهاتهم وآبائهم، وأحبائهم الذين لم يعودوا يرونهم، وربما لن يتذكروهم بعد حين، فهل تساوي هذه الأيام الأربعة كل ذلك الضجيج الذي اصطنعه البعض؟ وهلّا تذكرنا هؤلاء الذين يقبعون في السجون بتهمٍ لم يكن لهم يد فيها؛ بل جاءت لأسباب "قدرية"، إلا أنَّ القانون أعمى لا يرى إلا الأوراق والوثائق، حتى وإن كان المتهم يستحق البراءة، والرأفة؟!! وهلّا تذكرنا أولئك "المسجونين" في المستشفيات ينتظرون رحمة الله، والشفاء كي يخرجوا للقاء من يحبون؟

الوطن ليس سجنًا- أيُّها الأعزاء- إذا شعرنا بالنعم التي حبانا الله، والتي نملكها ولا يملكها غيرنا، الوطن ليس سجنًا، إذا تذكرنا من هم المحرومون حقًا من نعمة الصحة والحرية، الوطن ليس سجنًا إذا نظرنا إلى الأشياء نظرة رضا، وقناعة، وواقعية، وإذا تذكرنا أن هناك ملايين من الناس حول العالم يعيشون دون مأوى، ودون كهرباء، ودون ماء، ودون وطن.