الأمة التي لا تحترم القانون لا مكان لها بين الأمم

د. محمد بن عوض المشيخي

الالتزام بالنظام أساس التطور والرقي للشعوب والمجتمعات المعاصرة والتي تبحث عن مكان رفيع في هذا الكوكب؛ فالقوانين التي تُنظم حياة الناس اليومية يجب أن تحترم ولا نحتاج لمن يحرسها من الشرطة، بل يجب أن تكون في أذهاننا وعقولنا، وأمانة في أعناقنا ننفذها دون تردد. فالاعتراف بأن إعلامنا المحلي لم ينجح في معركته المصيرية؛ المتمثلة في إقناع المجتمع بأهمية المحافظة على البيئة والنظافة العامة بشكل عام من المسلمات.

 لذا نرى القليل منا من يطبق القانون لقناعة في نفسه. أما الغالبية العظمى من الناس فتميل إلى المخالفة، خاصة عندما تغيب المراقبة والعقوبات الرادعة؛ نجد من يتجاهل ويتنصل من تلك الأنظمة التي وضعت في الأساس للمصلحة العامة والمحافظة على أمن وأمان البلاد والعباد. فالأمة التي لا تحترم النظام كأسلوب حياة لا خير فيها، فهناك اعتقاد على نطاق واسع بين الأكاديميين والمفكرين العرب؛ أن من أسباب تخلف الأمة العربية وهزائمها المتتالية في معاركها مع أعدائها واحتلالها ذيل الأمم في مقياس الفساد؛ هو التمرد على القانون ومحاولة علية القوم أن يطبقوا القاعدة المعروفة في وطننا العربي الكبير "الواسطة فوق القانون". وبسبب تلك القاعدة تطبق القوانين على الضعفاء فقط، وكذلك فشلنا في الانضباطية في العمل، وأهدرنا الأوقات الثمينة  الأجمل في سنوات العمر؛ عن طريق سرقة الوقت وتحايلنا على ساعات العمل، مما ترتب على ذلك؛ قلة الإنتاج في المرافق الاقتصادية وتعطيل المراجعين للخدمات الحكومية المستحقة، وتأخير إنجاز مُعاملات الناس. 

ومن الظواهر الصارخة والمزعجة في البلدان العربية بلا أستثناء، والسلطنة على وجه الخصوص؛ رمي المخلفات في الشوارع والأماكن العامة، في الحدائق وعلى المسطحات الخضراء، وأماكن الرعي والشواطئ. فعند محاولة استفسار هؤلاء عن سبب رمي علب المرطبات والأكياس البلاستيكية، والمخلفات المختلفة في الطريق العام، وأحيانا كثيرة تلقى على مستخدمي الطريق الذين يسيرون خلف هؤلاء المستهترين في الشارع. تجد الإجابة الجاهزة لدى هؤلاء، بأن عمال البلدية سوف يتولون جمع تلك المخلفات. وكلامهم هذا مردود عليه، فماذا يمنع الاحتفاظ بالمخلفات في السيارة لحين وضعها في الصناديق المخصصة لها والمنتشرة في كل مكان؟ كما أن رمي المخلفات البلاستيكية والعلب الزجاجية، يشكل ضررا كبيرا على صحة البشر وأيضاً على الغطاء النباتي، فضلا عن التقاطها وأكلها من الماشية؛ كالأبقار والأغنام والإبل في مختلف مناطق السلطنة؛ مما يؤدى إلى القضاء على هذه الحيونات. فالوطن بحاجة لتعاون الجميع، ولا توجد منظومة مختصة بالنظافة والعمل البلدي في أي بلد تستطيع تجميع ما يرميه عشرات الآلاف من الناس، خاصة في المناطق البعيدة عن الشوارع، كما هو الحال في الأودية والجبال في مختلف محافظات السلطنة، كمحافظة ظفار في موسم الخريف. ومن المفارقات العجيبة، أن تجد من الأسر التي ترتاد مكانا معينا بشكل يومي، ويرمون مخلفاتهم في الأماكن المفتوحة، وتحت ظلال الأشجار في نهاية الرحلة التي تمتعوا فيها بالطبيعة الخلابة، إذ يجدونها في اليوم التالي في نفس المكان عند رجوعهم. لقد شرعت الأنظمة الإدارية التي تعاقب من يتخلص من النفايات في غير الأماكن المخصصة لها بغرامة مقدارها 100 ريال عماني، كما يُعاقب كل من يرمي النفايات فـي الأراضي الفضاء أو الأودية بغرامة 1000 ريال عُماني.

 وهنا أتذكر ما دونه الكاتب البريطاني روبرت فيسك الذي عاش سنوات طويلة في الوطن العربي، إذ يقول : " لماذا تبدو بيوت العرب غاية في النظافة، وشوارعهم والأماكن العامة تملؤها القاذورات؟! هذا الأمر في غاية الدقة .. والسبب أن العرب يشعرون أنهم يمتلكون منازلهم، ولكنهم لا يمتلكون أوطانهم". وبالفعل أتذكر في زيارتي لليمن الشقيق قبل عشر سنوات وقد أتيحت لي الفرصة لمُقابلة أحد الشخصيات العامة الذي كان عضوا في البرلمان، وطرحت عليه سؤالا حول أسباب تراكم النفايات في تلك المدينة، كما أنه لا توجد لوحات إرشادية تشير إلى الشوارع ذات الاتجاه الواحد مثلاً. فكان رده غريبا وغير منطقي بالنسبة لي، إذ قال: " نحن لسنا بدولة نفطية لكي نقوم بذلك العمل"... فقلت له: الأمر يحتاج إلى حملات توعية، وكذلك مشاركة طلبة المدارس والجامعات، وتعاون المجتمع المدني في تنفيذ تلك الأعمال بأقل التكاليف. فإذا افترضنا قيام كل بيت بتجميع مخلفاتهم، ثم وضعها في المكان المخصص لذلك، فقد نجحنا في جعل تلك المدينة بيئة مناسبة للحياة. فالمدن العريقة قبل النفط وبعده؛ تنظف وتنظم من سكانها.

 كما أتذكر موقفاً آخر يعكس تشابه ثقافة العرب وأوضاع مدنهم من المحيط إلى الخليج، إذ حضرت اجتماعاً في جامعة عنابة شمال شرق الجزائر عام 2009 ، وذهبنا في جولة بمعية الوفود التي تمثل مختلف الجامعات العربية إلى أحد الشواطئ القريبة من الحدود التونسية، الذي كان ممتلئاً بعلب المشروبات الغازية؛ مثل البيبسي والكوكاكولا وغيرها من المواد البلاستيكية، وكان ذلك في شهر مارس. إذ يبرر مرشد رحلتنا أن تلك المخلفات يتم إزالتها في بداية الصيف من كل عام قبل الموسم السياحي.

إن ديننا الإسلامي يأمر بالمحافظة على النظافة والمحافظة على البيئة، ومنع قطع الأشجار. فالنظافة من الإيمان. ولا تسقيم حياة الناس إلا بوضع ضوابط لجميع أفراد المجتمع، وخارطة طريق لتربية الأجيال، بداية بالأسرة الصغيرة التي يجب أن تعلم أبناءها الواجبات الأساسية؛ نحو أنظمة المرور والمحافظة على النظافة في المنزل، خاصة رمي المخلفات في الأماكن المخصصة لها، والتدريب على نظافة الحي، والبيوت المحيطة بالمنزل بمشاركة الوالدين، وقبل ذلك احترام الآخرين، وعدم تجاوز الناس في الأماكن التي ينتظرون فيها، في طاوبير التسوق والعلاج والخدمات الحكومية الأخرى. كما يجب على الأسرة أن تعلم الأطفال قيم الصدق، وحب الوطن واحترام القوانين والأنظمة. ثم يأتي دور المدرسة المتمثل في ترسيخ تلك الواجبات، والقوانين التي تعلمها النشء من الوالدين، والعمل على حث الآخرين على المشاركة في المحافظة عليها، باعتبارها واجب جماعي، وتخصيص أيام معينة في المدرسة؛ لتطبيق تلك الأنظمة والقوانين على أرض الواقع؛ كالمشاركة في حملات نظافة الشواطئ والأودية، وزيارة المرضى والمسنين، ومساعدة الفقراء. وتنتهي هذه السلسلة التوعوية بالجامعات التي عليها مسؤوليات جبارة؛ لكون طلاب الدراسات الجامعية، يمتلكون طاقات جبارة، وأفكاراً خلاقة يُمكن الاستفادة منها، وتسخيرها لخدمة المجتمع. وأتذكر عندما كنت عميدا لشؤون الطلبة في جامعة السلطان قابوس، نفذت الجماعات الطلابية التي تشرف عليها  العمادة أكثر من ملتقى بعنوان(الجماعات الطلابية في خدمة المجتمع)، فكانت البداية في مدينة فنجاء، إذ تم التنسيق مع المدارس والأعيان قبل تنفيذ الملتقى؛ للمشاركة في الحملة التي تمثلت في توعية طلاب المدارس وأعيان المدينة، بأهمية العمل التطوعي والمحافظة على نظافة المدينة. كما نفذ طلاب الجامعة، وسكان المدينة العديد من المشاريع المتعلقة بنظافة المزارع والحارات القديمة، وكذلك إنتاج فيلم وثائقي عن فنجاء، وقلاعها التاريخية، بالإضافة إلى قيام جماعة كلية الطب بإجراء الفحوصات الطبية للأهالي، وتحويل بعضهم لمستشفى الجامعة للعلاج والمتابعة. أما الملتقى الثاني فقد احتضنته ولاية بركاء، وتحديدا منطقة السوادي التي فتحت أبوابها لأكثر من 400 متطوع من جامعة السلطان قابوس، وطلاب المدارس في نفس المجالات المجتمعية التي نفذت في ملتقى فنجاء الأول.

وفي الختام؛ إن المتابع للعمل البلدي في السلطنة؛ يُلاحظ تراجع إنجازات هذه المؤسسات الهامة، وغياب دورها الرقابي في تطبيق الأنظمة والقوانين، خاصة في محافظة مسقط. فرمي مخلفات البناء منتشر بكثرة في أودية الخوض، ومرتفعاتها، وكذلك في منطقة الجفنين وشعابها الجميلة. وقد حان الوقت لتوظيف مجموعة من الشباب لمراقبة الشاحنات التي ترمي المخلفات في تلك الأودية السياحية، أو تركيب أجهزة تتبع لرصد تلك المركبات المخالفة وتغريمها، وكذلك إجبارها على إزالة مخلفاتها بأسرع وقت ممكن؛ لكي تبقى عمان نظيفة وجميلة.

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري