علي بن سالم كفيتان
ساد الصمت جنبات قصر الحصن العامر في ظفار بمولد رجلٍ سيغير كل مجريات التاريخ في عُمان، لقد كان نهاراً جميلاً؛ حيث بدأت نفحات الشتاء تهز هدوء الربيع وتأخذ معها بقايا الأوراق المتساقطة، بينما ظلت الزهور صامدة رغم يبوسها.
بحر العرب يداعب نظر السيدة الجليلة من شرفتها الفسيحة، فترى اختلاط اللونين الأخضر والأزرق وارتماء الأمواج بهدوء على الساحل.. النخيل تتمايل بغنج فتلامس زرقة السماء الصافية، والجبل بدأ يعزف سمفونية الميلاد العظيم، لقد وُلِد قابوس بن سعيد ورأى نور الحياة الأول يشع من نافذة ظفار، أخذ زاده من هوائها العليل، وتطهرت رئتيه بنفحات الحوجري القادم من قمم سمحان الشامخة، وأرتوى من فلج رزات؛ حيث النبع لا يستكين منذ 50عامًا... صقلته حكمة السلاطين وصلابة أخواله في الجبال، هكذا قدم الثائر من الجنوب فخاض حربًا لا هوادة فيها وانتصر في كل المواقع، ورسم لوحة جميلة ظل ممسكاً بها حتى آخر رمق في حياته.
عندما أكتب عن قابوس تتقاذفني أمواج المشاعر ويهيج قلمي كحصان جامح وتزدحم الكلمات والمواقف في مخيلتي، ولا أحسب حسابًا لعدد الكلمات المخصصة للمقال؛ فقابوس يمتلك إرثًا عظيمًا ومواقف لا تنسى مع شعبه، لم يعمل سوى لعُمان وظل وحيدًا في قصره لا تشغله إلا عُمان وأهلها. كان عليه أن يتخذ قرارات صعبة ومؤلمة أحيانًا فلم يتردد، فعمل على مداواة الجروح التي ظلت مفتوحة منذ زمن طويل.. تعامل بمسؤولية نادرة ولم تفارقه الرحمة والشفقة على كل نفس في عُمان، فعمِد لبلوغ القرى البعيدة في عمق الجبال وجلس واستمع لشيابها وشبابها.. نسائها ورجالها، فزار الحقول المعزولة في قيعان الأودية وخيام البدو في تخوم الصحراء، وتهافتت على سيارته الخضراء الأنفس المنهكة، فأنصفها وقاتل من أجل إسعادها؛ ليعوِّض ما مضى من سنوات الفقر والمرض والجهل. كان قلب قابوس عطوفًا حانيًا، فقد ذكرت الروايات تساقط دموعه عندما تهادى إليه رجل عجوز متكئًا على عصاه، وقال له: أنت السلطان؟ قال له: نعم أنا هو؛ فأنهار الرجل المسن على الأرض باكيًا وهو يقول لقد تأخرت علينا.. لقد تأخرت علينا... إننا بين الحياة والموت فأخذت العبرات السلطان الإنسان وجلس إلى جواره على حصباء الوادي، وقال له وهو يمسح دموعه "أبشر بالخير يا عم نسأل الله أن يقدرني لمداواة جروحكم"، فظل طوال حياته يعمل لجر الزمن وتعويض الحرمان في التعليم والصحة والأمن لكل شبر من عُمان.
كان قابوس رجلٌ صعب المراس، لم تجره الدول والممالك، ولم يستمع لكل شور إلا بعد تمحيص، رسم خطًا واضحًا لحياته ولمصير بلده، وواجه كل العواصف بهدوء وحنكة، حتى مع دول الغرب التي توصف بأنها من يتحكم في القرار، وبشهادة هؤلاء، قابوس لم يذعن لأي رأي، ولم يستمع لمشورة فيها العودة للتناحر والحرب والدمار، فكانت مقولته بينه وبين نفسه: كفا هذا الشعب ما تعرض له من شتات ومرض وجهل وفقر لقرون خلت.. سأكافح بكل طاقتي لبسط رداء العافية في بلادي، سأصالح كل الأمم والشعوب من أجلهم؛ لذلك مات السلطان قابوس ورصيد الخلافات صفر مع كل أمم الدنيا، وغادر- رحمه الله- الدنيا وعُمان تحقق المستوى صفر في مؤشر الإرهاب العالمي، فشكلت السلطنة البقعة الآمنة في وسط إقليم ملتهب بالتغيرات والحروب والصراعات والدسائس والثورات.
وفي يوم ميلاد الأمل في ظفار، تسابق البدوي علي الضبعان وسفينة المعلم التي انطلقت من مرباط إلى مسقط؛ أيهما يبلغ أولًا ليُبشِّر السلطان سعيد بن تيمور بقدوم ابنه، ناقة الضبعان لم تخذله ويقال إنها وصلت قبل مركب المعلم ومن معه، فقدم إلى قصر العلم وبشر السلطان ففرح وسماه قابوس تيمنًا بإنارة الظلام، وصدقت التسمية، فقد كان القبس الذي أضاء دياجير الظلام ومسح الحزن والأسى عن كل إنسان في عُمان، ولقد كتب السلطان سعيد بن تيمور- رحمه الله- خطاباً رقيقاً لوالده السلطان تيمور ينبئه فيه بقدوم حفيده قابوس بن سعيد، فكانت تلك بشارة أخرى لعودة المجد والعزة لعُمان ولأسرتها المالكة الكريمة.
تظل ذكرى الثالث والعشرون من يوليو حدثًا لا يُمكن تجاوزه؛ ففي ذلك التاريخ استلم السلطان قابوس- طيب الله ثراه- زمام الأمور في عُمان؛ فأكرمها وأكرم شعبها، وفي يوم رحيله الأليم بكته عُمان من أقصاها إلى أقصاها، وافتقدته كل الأمم والشعوب الحرة في العالم..
نسأل الله له الرحمة والمغفرة، ونسأله جلت قدرته التوفيق والسداد لجلالة السلطان هيثم بن طارق- أيده الله- وحفظ الله بلادي.