◄ سعي متواصل لتوثيق عُرى التعاون وبناء الشراكات الثنائية بين عُمان والسعودية
◄ الزيارة تتزامن مع متغيرات عدة وتنطلق من نقطة تماس مشتركة وهي "المصير الواحد"
◄ العلاقات الاقتصادية والاستثمارات المشتركة جوهرة التاج في مسيرة البلدين
حاتم الطائي
في الحديث عن العلاقات العُمانية السعودية والأبعاد المُشتركة والقواسم الثنائية والتَّعاون البيْني، تتنوع الأفكار وتتعدد الرؤى، لكي تتفق على قاعدة واحدة وأساس راسخ مُتجذر؛ ألا وهو العُمق الاستراتيجي بين البلدين؛ فكلا القُطرين يمثلان- لبعضهما البعض- عُمقًا استراتيجيًا يفرض على كلِ طرفٍ السعي الحثيث لتوثيق عُرى العلاقات، وبناء الشراكات الثنائية في شتى المجالات، ليس فقط في الجوانب الاقتصادية والتجارية والثقافية- أي القوى الناعمة- بل والأمنية والعسكرية (القوى الخشنة)؛ لأنَّ هاتين الأخيرتين تمثلان ركيزتين رئيسيتين للاستقرار والازدهار وفق آليات تضمن السلم العام والأمن محليًا وإقليميًا ودوليًا.
ولا شك أنَّ الزيارة التاريخية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم- حفظه الله ورعاه- إلى المملكة العربية السعودية الشقيقة، تمثل واحدة من اللحظات المفصلية في علاقات البلدين، إن لم تكن أكثرها أهمية على الإطلاق خلال العقود المُنصرمة والسنوات المُقبلة أيضًا. وهذه الأهمية تنبع من عدة عوامل؛ تنقسم بين داخلية وخارجية، فضلًا عن العامل الزمني من حيث توقيت الزيارة. ونبدأُ من عامل توقيت الزيارة، والتي تأتي تلبية للدعوة الكريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ملك السعودية، فيما تُعد تتويجًا لسلسلة من اللقاءات المُباشرة وغير المُباشرة، والرسائل المتبادلة بين البلدين عبر مسؤولين رفيعي المستوى؛ إذ سبق هذه الدعوة (الزيارة) تبادُل الوفود الاقتصادية والسياسية؛ بل والعسكرية، ما يعني أنَّ الترتيبات لهذه الزيارة استغرقت وقتًا بهدف جني الثمار المأمولة، وألا تكون زيارة بروتوكولية عادية. وتوقيت الزيارة يتزامن مع مُتغيرات عدة من حولنا في منطقة الخليج والعالم بأسره؛ فالأزمة المزدوجة التي تضرب الكثير من دول العالم-وبالأخص دول الخليج النفطية- نتيجة لتراجع أسعار النَّفط وحالة التذبذب التي نشهدها هذه الأيام، إلى جانب أزمة جائحة كورونا التي غيَّرت وجه العالم دون مُبالغة، كل ذلك يفرض على أكبر دولتين في المنطقة العمل من أجل مزيد من الشراكة والتَّعاون البنّاء، شراكة استراتيجية تستند في جوهرها على القواسم التاريخية والحضارية للبلدين، وأيضًا تنطلق من نقطة التماس المشتركة وهي "المصير الواحد". فبلاد الخليج عامة، وعُمان والسعودية- على وجه الخصوص- تتشاركان المصير الواحد، فالجغرافيا السياسية بينهما تكاد تكون متشابهة؛ إذ نقع كلانا- السلطنة والمملكة- في قلب الشرق الأوسط؛ حيث المنطقة الأشد التهابًا في العالم، وعلى مرمى حدودنا دول تتعرض لنكبات وحروب وصراعات داخلية ومعارك بالوكالة بين قوى تُريد أن تضع لنفسها موطئ قدم في تلك الدول المضطربة، إلى جانب اقتصادات إقليمية مُتعثرة. غير أنَّ أبرز ما يُميز هذه الجغرافيا، الموقع الاستراتيجي، فنحن هنا في عُمان نملك واحدًا من أطول الشواطئ في العالم، وتجمعنا علاقات جوار طيبة مع جميع دول المنطقة، وتطل موانئنا المتطورة لوجستيًا، على أهم مسارات التجارة البحرية الدولية. وكذا الحال بالنسبة للمملكة الشقيقة؛ إذ تتميز بجغرافيا متنوعة على مساحة شاسعة تجعلها أكبر دولة في المنطقة من حيث المساحة، فضلًا عن تمتعها بشواطئ مُمتدة على الخليج العربي والبحر الأحمر، وهنا تتجلى أيضًا أهمية خطوط الملاحة الدولية في هذين الموقعين الفريدين (الخليج شرقًا والبحر الأحمر غربًا). هذا بجانب الدور المحوري للسلطنة في أن تكون همزة الوصل ونقطة الالتقاء بين الشرق والغرب، عبر الموانئ النوعية ومشروع السكك الحديدية (القطار)، بما يمكن أن يمثل ربطًا لوجستيًا قويًا بين الدقم والرياض، في مسار تنمويّ من شأنه أن ينقل البلدين إلى آفاق اقتصادية أرحب.
هذه الميزة الاستراتيجية للموقع، تنقلنا للحديث عن العوامل الداخلية.. ففضلا عن الثروة النفطية في كلا البلدين، إلّا أنَّ ثمَّة ميزة استراتيجية يُمكن توظيفها بين السلطنة والمملكة، من خلال تفعيل الصناعات البتروكيماوية، وصناعة المشتقات النفطية، وإنشاء المصافي المشتركة، وتصديرها مُباشرة عبر الموانئ المُجهزة تجهيزًا نوعيًا؛ -صحار والدقم نموذجين- وعبر منظومة طرق نوعية تتميز بأعلى معايير السلامة والأمان. كما إن البُنى الأساسية المُتقدمة من شأنها أن تُسهم إسهامًا كبيرًا في تسهيل حركة التجارة البينية، خاصة مع الافتتاح المُرتقب للطريق البري الرابط بين السلطنة والمملكة، عبر منطقة الربع الخالي، والذي يُمثل شريانًا بريًا سيفتح آفاقًا غير مسبوقة للتَّعاون، وسيُحقق انتعاشة كبرى في علاقات التجارة، فضلًا عن أهميته اللوجستية ورمزيته السياسية. ومجالات التَّعاون الاقتصادي والاستثماري لا يُمكن حصرها في مقال واحد، لكن نستطيع القول إنَّ هذه المجالات ستُحدث تغييرات في خارطة الاستثمار الإقليمي، وستغير من توجهات الاستثمار الأجنبي المُباشر في المنطقة، إلى جانب ما سيتحقق من مكاسب مُشتركة للطرفين.
ما يُؤكد أهمية هذه الزيارة، أيضًا، الرغبة المُشتركة بين كلا البلدين في توظيف الطاقات الوطنية، فعُمان تزخر بكفاءات وطنية شابّة وطموحة، تتطلع بعين يملؤها الأمل نحو مُستقبل أكثر ازدهارًا، كفاءات تعلمت في أرقى الجامعات داخل السلطنة وخارجها، واكتسبت من المهارات وطوَّرت من القُدرات ما يُساعدها على الخوض في مجالات عمل ومشاريع نوعية مع نظرائهم السعوديين، الذين يُشاركونهم في العديد من الجوانب السابق ذكرها. هذه القوى البشرية العاملة هي المُحرِّك الفاعل لديناميكية العلاقات الثنائية، وهي التي ستقود المُستقبل، وترفع راية التَّقدم إلى مرافئ الازدهار والنماء.
وتنعكس أهمية الزيارة، كذلك في الرؤى المشتركة بين البلدين فيما يخص مجالات الاقتصاد والاستثمار، ومن المُؤكد أنَّ الجميع يُدرك نقاط الالتقاء بين رؤيتنا المستقبلية "عُمان 2040" ورؤية السعودية "المملكة 2030"؛ سواء من حيث تنويع الموارد الاقتصادية والتوسع في مشاريع الطاقة المُتجددة، والتوجه نحو الاستثمارات الذكية وتعظيم الاستفادة من المُدن الصناعية والمناطق الحُرة وجذب الاستثمارات، أو فيما يتعلق بتطوير منظومة التعليم وحفظ وصون التراث وتحقيق التميز في مجالات الرياضة والثقافة والإعلام، وغيرها الكثير..
الزيارة التاريخية تأتي أيضًا بينما تشهد منطقتنا اضطرابات جيوسياسية وعسكرية، وخاصة فيما يتعلَّق بالملف اليمني، والوضع في دول أخرى ما زالت تُعاني من تبعات المعارك والحروب الماضية، وكذلك المُتغيرات الدولية والسعي المُتواصل لتحقيق الأمن والاستقرار في أرجاء المعمورة. وعُمان بدبلوماسيتها المُحايدة ونزاهتها المعهودة وتمسكها الشديد بالثوابت الوطنية، قادرة على الإسهام في حلحلة العديد من الملفات. وكذلك الحال بالنسبة للسعودية، صاحبة المكانة الدولية بفضل الرمزية الدينية لبلاد الحرمين الشريفين، وقوتها الإقليمية والعالمية.
وتوافق الرؤى العُمانية والسعودية تجاه العديد من القضايا الخارجية، يُسهم بصورة ملحوظة في تحقيق أهداف السلام المنشودة، وأقرب النماذج الأزمة اليمنية، والتي يُمكن لنا أن نتوقع انفراجة محتملة فيها، بعد الزيارة التاريخية، شريطة التزام الأطراف المُتصارعة هناك بالسعي الجاد نحو تحقيق السلام وتلبية تطلعات المواطن اليمني وليس أي قوى أخرى.
ومن هنا نقول إنَّ التعاون العُماني السعودي فيما يتعلق بقضايا الأمن الإقليمي والدولي، من شأنه أن يُعزز الجهود الرامية لبسط مظلة السلام والاستقرار، وتوحيد الجهود بناءً على الرؤى المتوافقة في هذا السياق، الأمر الذي سيُفضي إلى نتائج إيجابية تُساعد على وقف العدوان على الأبرياء وإطفاء نيران الحروب في الكثير من البقاع، وتقريب وجهات النَّظر بين الأطراف المُتخاصمة أيًا كانت مواقعهم، والأهم من ذلك كله، أنَّ مثل هذا التعاون البنّاء ضمانة أساسية لتماسك البيت الخليجي؛ إذ لا يخفى على أحد التحديات التي يتعرض لها مجلس التَّعاون لدول الخليج العربية بين الفينة والأخرى، غير أنَّ التعاون الوثيق بين عُمان والسعودية قادر على تذويب أي اختلافات في وجهات النظر بين الأشقاء، وتأكيد المبادئ التي قام على أساسها هذا المجلس، وفق ما رسمته الرؤى الحكيمة للآباء المؤسسين، من أهداف، لأقوى كيان سياسي واقتصادي وعسكري في المنطقة.
وختامًا.. إنَّ هذه الزيارة التاريخية لجلالة عاهل البلاد المُفدى- نصره الله- ستفتح الآفاق أمام المزيد من علاقات الشراكة الاستراتيجية والتَّعاون المُثمر بين عُمان والسعودية، بكل ما تمثلانه من ثِقل تاريخي ودبلوماسي وجيوسياسي واستراتيجي، فضلًا عن المُمكنات الاقتصادية والعلاقات الدولية، بما يخدم تطلعات قيادتي البلدين الشقيقين، ويلبي طموحات الشعبين العُماني والسعودي، نحو مُستقبل واعد بإذن الله تعالى..
حفظ الله جلالة السُّلطان المُعظَّم في حله وترحاله، وأعاده إلى الوطن سالمًا غانمًا.. إنِّه وليُّ ذلك والقادر عليه.