الاستثمار بديلا من الدمج

 

هلال بن حمد النعُماني

omanoor101@gmail.com

 

 

كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن إعادة هيكلة بعض وحدات الجهاز الإداري للدولة تنفيذًا للرؤية المستقبلية "عُمان 2040" وسعي بعض الوحدات لتقليص دوائرها وأقسامها.

بلا شك أن الخطوة التي اتخذتها الحكومة بدمج بعض الوزارات كانت خطوة إيجابية، والتي هدفت إلى إلغاء الازدواجية والتداخل في المُهمّات والصلاحيات التي تتولاها بعض المؤسسات والهيئات المتشابهة، وتقليص عددها من خلال دمج أو إلغاء بعضها لترشيد الإنفاق المالي.

والدمج بالصورة المتقدمة لا غبار عليه فهو أمر جيِّد ويصب في المصلحة العامة للوطن، ولكن الدمج الذي يعني تقليص المؤسسات الحكومية الخدمية وتواجد دوائرها في الولايات، فهو توجه له من السلبيات الكثيرة على الوطن والمواطن على حد سواء، وخاصة الخدمات التي يحتاجها المواطن وهو يعيش ظروفًا استثنائية من حياته كالخدمات الأمنية والقضائية بشقيها المحاكم والادعاء العام وكذلك الخدمات الصحية وخدمات البلدية.

وتواجد الخدمات اللصيقة بالمواطن بالقرب منه له أهمية كبيرة على كافة الأصعدة، فالجميع يشيد بشرطة عُمان السلطانية في تألقها في تواجد خدماتها في كل ولاية تقريبًا، بحيث إن المواطن يحصل على الخدمة دون عناء التنقل أو الانتظار الساعات الطوال كما يحدث سابقًا، وأيضًا المحاكم لها تجربة تاريخية عريقة في تقديم خدماتها، فمنذ قبل السبعين المحاكم منتشرة في الولايات.

وخطة عُمان 2040، يجب ألا تكون مرهونة بالوضع الاقتصادي الراهن، وما يُصاحبه من انكماش مالي وتنموي، فالظروف المخيمة على بلادنا وعلى العالم هي ظروف لحظية في طريقها إلى الانقشاع، فلا شيء يبقى ثابتا إلى الأبد، فهذه هي سنة الحياة ودوام الحال من المحال، وما دام التخطيط إلى عشرين سنة قادمة، فإنَّ أمامنا سنوات حبلى بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية، وبالتالي ليس من الحصافة أن نحجم طموحنا ونتراجع القهقري إلى الوراء، فالمؤسسات الحكومية التي مدَّت أذرعها الخدمية في الولايات منذ سنوات عدة، تشرع الآن في إعادة حساباتها المالية وكأنهن مؤسسات ربحية لا خدمية من مسؤوليتها تقديم خدمة للمواطن هو بحاجة إليها.

عندما تنشب الأزمات والمحن مخالبها وأظفارها، فإنَّ هناك من يرى الانكفاء والرجوع إلى الخلف وهناك من يستفيد من المحن لخلق عالم جديد مفعم بالطموح والتحدي، مثابرا لخلق الفرص وتحويل المحن إلى منح، إن الانغماس في أزمة مُعينة وتهويلها لتحاصرك مخاوفك وأنت مضغوط في صندوق الأزمة المظلم لا ترى نورا ولا أملا؛ فتأكل ذاتك وتقلم أطرافك لتغدو هزيلاً ضئيلاً فهذه الحالة وغيرها من الحالات تمثل المعالجات السطحية للأزمات والناتجة من سوء إدارة الأزمة والأخذ بالتدابير الصحيحة لمعالجتها وتطويعها وخلق سلم منها للارتقاء.

طبعًا من السهل اتخاذ قرار الدمج فهو لا يُكلف متخذيه جهدًا ولا عصفًا ذهنيًا ولا عصرًا فكريًا ولا يحتاج إيقاظ الأرواح الناعسة وجعلها مستيقظة ومستنطقة الهدير المدوي للأزمات، فقط مجرد التوقيع على القرار ويتم حشر موظفي عدد من الدوائر ومراجعي عدد من الولايات في صعيد واحد في الأصل هو مكتظ بما فيه قبل الدمج، والذي هو يعني تجريد عدد من الولايات من مظلة الخدمات الحكومية التي امتدت إليها وجعل المواطن يقطع المسافات الطويلة التي يصل بعضها إلى 100 كيلومتر بما يصاحب ذلك من مشقة واستنزاف لوقته وطاقته وماله، خاصة وأن هناك مؤسسات تبالغ في تمطيط إجراءاتها، فعلى المراجع أن يراجع أكثر من قسم في الدائرة وأكثر من موظف في القسم وأكثر من دائرة في الوزارة.

إنَّ المؤسسة المزدحمة بالمراجعين والموظفين لن تكون البيئة السليمة للعمل بل ستتحول تدريجيًا إلى إمبراطورية إدارية يجد الموظف نفسه فيها يحفر في تلال من الرمال متحركة لا نهاية لها، مُحاصر بالمراجعين والمعاملات، أعمال لا تنقضي في نهاره فيأخذها معه لبيته فتحرمه من راحته وعياله، كارهًا لنفسه ومآله، وغالبًا هذه المؤسسات تكون بيئة طاردة للموظفين والإداريين فيه إلا الذي لا مناص له لظروفه من الانفكاك منها.

ولقد اجتهدت بعض المؤسسات في مُعالجة زحمة المراجعين بأن أسندت لمكاتب سند عملية التسجيل لطلب موعد مسبق لمراجعتها مقابل رسم مالي مُعين، وهذا الإجراء أفرز عدة إشكاليات وأضاف عبئًا إضافياً للمراجع، فقد تتقدم بطلب موعد وتدفع الرسم المالي ولا تحصل على الموعد، وقد يحدد لك موعد ولكن الموظف غير موجود أو أن المعاملة تم تحويلها إلى قسم آخر، وهذا القسم يحتاج موعدا جديدا، وهكذا تظل ككرة تتقاذفها أقسام الدائرة يرتفع خلالها ضغطك وتخسر مالك وصحتك، وإحدى المؤسسات سبق وأن ابتكرت إجراء عجيب بأن طلبت من المراجع دفع مبلغ إذا رغب التعجيل في إنهاء مُعاملته وإلا عليه الانتظار سنوات عجاف.

أما من حيث جودة العمل، فغالباً المؤسسات المضغوطة بالمراجعين تقل فيها جودة العمل وتكثر فيها الأخطاء الإدارية والمخالفات القانونية، وقد تؤدي زيادة المعاملات إلى فقد بعضها في الركام المتكدس، هذا فضلاً عن التأخير في إنجاز المعاملات بالجودة المطلوبة.

إن المتأمل للحياة في العصر الراهن يجد أنَّها محاطة بكم هائل من الأوبئة والأمراض الفيروسية التي تنتقل عبر التواصل المباشر بين الناس، فكلما خمد وباء اشتعل فتيل وباء آخر، وهذه الأوبئة يعد الاكتظاظ البشري مرتعا خصبا لها، والتباعد وسيلة فعالة للوقاية منها والحد من تفشيها، لذلك ليس من الحكمة تجميع جماهير المراجعين والموظفين وتعريضهم لخطر الإصابة بأي وباء متفشٍ في حين هناك متسع لتجنب ذلك.

إذا أردنا سبر تفاصيل التكلفة المالية التي دعت بعض الجهات إلى التخطيط لإلغاء بعض دوائرها في الولايات فإننا سنجد الإيجارات على رأس قائمة المصروفات وثم تكلفة الكهرباء والحراسات وأخيرا أعمال النظافة، هذه تقريبًا مجمل مخرجات فاتورة المصروفات التشغيلية.

بالنسبة للإيجارات، فإن مقرات الدوائر الحكومية معظمها إما مبانٍ حكومية قديمة وإما مبانٍ مستأجرة، وخلال الخمسين سنة لم تكن هناك خطة للوحدات الحكومية للبناء وكان التبرير هو إتاحة الفرصة للمؤجرين للاستفادة من عائد الإيجار !!، والآن بعد أن أصبح سقف بند الإيجارات مرتفعا تنوء عن حمله ميزانية الوحدات الحكومية بدء التفكير في الدمج.

ولمُعالجة جزئية الإيجارات نقترح الاستفادة من الأراضي الواسعة المخصصة للدوائر الحكومية في الولايات، وذلك بعرض جزء من الأرض الحكومية للاستثمار للقطاع الخاص لبناء مبنى كمقر للدائرة مقابل إيجار شهري مناسب ومعقول تدفعه الوحدة الحكومية للمستثمر لمدة زمنية متفق عليها  على أن يتحمل المستثمر تكاليف صيانة المبنى خلال مدة الاستثمار، ثم يؤول المبنى بالكامل للحكومة، أما الجزء المتبقي من الأرض فيعرض أيضاً للاستثمار التجاري مقابل عائد يدفعه المستثمر للحكومة لمدة زمنية ثم أيضاً يؤول المبنى للحكومة، وفي 2040 سيكون للدائرة مبنى حديث مملوك للوحدة الحكومية ومبانٍ تجارية تدر دخلا جيدا، أما تكلفة الكهرباء فلن تشكل عائقاً ولن تكون سبباً من أسباب الدمج نظرًا لوجود الطاقة البديلة، فمباني عُمان المستقبل -عُمان 2040 - يفترض أن تكون مجهزة بمصادر الطاقة البديلة لتستغني عن الكهرباء التقليدية كلياً أو جزئياً، وحري بوحدات الجهاز الإداري للدولة خوض هذه التجربة فأسطح المباني كثيرة والشمس مشرقة طوال العام، أما تكلفة الحراسات الأمنية فهي في الأساس معاد تدويرها داخل الوطن على شكل توظيف للكوادر الأمنية وعائد استثماري لأحد صندوق التقاعد.  

يتضح أن قرار الدمج بالصورة التي تطرقنا لها يعتبر قرارا فاشلا خاصة إذا أخذنا في عين الاعتبار المتغير الديمغرافي والاجتماعي والاقتصادي، فعُمان عام 2040 ليست عُمان عام 2021، فالبلد مقبلة بإذن الله إلى طفرات تنموية وزيادة سكانية مضطردة، فيجب أن تكون خططنا متواكبة للمستقبل ومستشرفة له، فعلى المؤسسات اتباع سياسة التفريع وتقليص إجراءاتها كما هو واقع الحال لدى شرطة عُمان السلطانية حتى لا تجد دوائرها في المستقبل القريب وقد ضاقت بمن فيها.

إنَّ أية دراسة تتعلق بالدمج تكون فيها التكلفة الإيجارية في مقدمة مسببات الدمج وهذه التكلفة التعامل الناجع معها في ضوء المعطيات الاقتصادية الراهنة بالشراكة بين القطاع العام والخاص في تشييد المباني الحكومية على النحو الذي ذكرناه.

تعليق عبر الفيس بوك