عبقرية الفراهيدي

 

خالد بن الصافي الحريبي

 

"لقد جُنّ أبي!" صاح الطفل عندما لاحظ أباه يُدندن بكلمات غير مفهومة على حافة فوهة البئر؛ فردّ أبوه:

لو كنتَ تعلم ما أقول عذرتني أو كنتَ تعلم ما تقول عذُلتكا

لكن جهلتَ مقالتي فعذلتني وعلمتُ أنَّك جاهلٌ فعذرتكا

يا تُرى كيف كان سيتصرَّف هذا الطفل لو علم أنَّ ما يشهده هو أحد أهم ابتكارات المنصات العلمية اللغوية في التاريخ؟ فالأبُّ في هذه القصة لم يكن سوى العلّامة الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي الأزدي اليحمدي البصري الشاعر وعالِم النحو وضابط إيقاع لساننا العربي، والطفل هو ابنه عبدالرحمن بن الخليل.

في هذه السلسلة من المقالات التي تُسّلط الضوء على عددٍ بسيط من العباقرة العُمانيين الذين تُضيف أعمالهم للإنسانية معنى وعلماً نافعاً إلى يومنا هذا، كلما تعمّقت في حياة الفراهيدي تيّقنت أنَّ عِلمه ليس إلا جزءاً يسيراً من إرثه الخالد، حتى بعد حوالي ثلاثة عشر قرناً من وفاته.  وقد أنتجت سلطنة عُمان مُسلسلا قيّما عنه في العصر الذهبي للإنتاج الفني في الثمانينات من بطولة الفنان أحمد مرعي وإخراج المخرج عادل صادق من مصر. فمن هو الفراهيدي؟ وما هي الرسالة السامية التي سبق بها عصره وتكاد تكون ضالتنا المنشودة اليوم؟

الشاب الثائر

وُلد الخليل بن أحمد الفراهيدي في عُمان في العام 100 للهجرة، وكما يقول الأثر فإنه يبعث الله عزَّ وجلَّ في هذه الأمة من يجدد لها روحها على رأس كل مائة عام، وقد نشأ في العصر الذهبي للدولة الإسلامية بداية بعهد الخليفة الراشد الخامس عُمر بن عبدالعزيز وتُوفي في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد.

وتميزت طفولته بحرص والدته وأبيه أحمد الذي كان تاجراً بين عُمان والبصرة أن يتلقى وحيدهما الخليل العلم في مجالس أهم العلماء في البصرة. وإذا كان عصرنا تَتَخلله الجوائح المالية والصحية فقد تخّلل عصر شباب الفراهيدي جوائح نباتات التطرف والتحزّب والتعصب الفئوية السامّة مع بلوغ الدولة الإسلامية أقصى توّسعها وتنوّعها وثرائها من حدود الصين شرقاً لجنوب فرنسا غرباً. وهنا يكمن ما أٌؤْمن به أنه أسمى رسالة من حياة الفراهيدي وهي أنَّ رسالتنا كبشر هي ألا نيأس أبداً من قيمة التعارف والتواصل الإنساني وأنه هو اللقاح الأنسب لاستئصال نباتات الفئوية السامة، وليس أي لقاح آخر يُداوي الأعراض دون المُسببات ففي عنفوان شبابه كاد الإحباط من الظلم أن يدفع بالخليل لحمل السلاح للذود عن قبيلته ضد الفتن التي تسبب فيها التدافع المُستمر بين الولاة. ولكن شاءت رحمة الله عزَّ وجلَّ أن يستمع الخليل في حلقة علم إلى حديث الرسول عليه الصلاة والسلام عن ابن مسعود رضي الله عنه: "كل المُسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه" (رواه مُسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ). فلم يعدل الخليل عن الدخول في أي فتنة وحسب؛ بل كرّس رسالته في الحياة لضبط إيقاع التَّعارف والتواصل بين الناس وتبسيط اللغة لكل النَّاس. جدير بالذكر هنا أنه في عالم الابتكار وريادة الأعمال ليس ميّسرًا لأي إنسان أن يبتكر تغييرًا جذرياً ومستداماً في حياة عامة الناس (Paradigm Shift) ما لم يكن حباه ربنا سبحانه وتعالى العبقرية.

مُبتكر المنصات

في عالم الأعمال ما يخلب اللّب في فِكر وأسلوب الرواد هو تمّكنِهم مُن ملاحظة عناصر بسيطة لا نُلقي لها بالاً وتحويلها لمنصة بسيطة ونافعة للناس، بما يُسمى علميًا باستراتيجية المنصات (Platform Strategy). وهنا سبقتنا عبقرية الفراهيدي بعصور فقد أدرك أنَّ اكتشاف وابتكار علمٍ نافع لا يُمكن أن تكون دوافعه ضيّقة فسخّر وقته لتحويل تلامذته لروّاد منصّات تجمع وتوّثق وتدّقق وتنشر الأساليب البسيطة للإلمام باللغة بين عامة الناس، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: أبو الأسود الدُؤلي مؤلف علم النحو والأصمعي صاحب قصيدة "صوت البلبل" والليث بن المظفر الكناني والنضر بن شميل والكسائي وغيرهم. وللتدليل على بساطة وعبقرية ما ابتكروه لنا في نفس الوقت فيُمكن أن تتخيل أنه يُشبه كل التقنيات المعلوماتية والبيانات التي ننعم بها في هواتفنا وحواسيبنا وأجهزتنا الذكية التي أساسها مكونين رقميين بسيطين هما: 01 (Bits)، فقد طوّر الفراهيدي وتلامذته إسهاماتهم القيمة بعصور على مبدأ أن تبسيط لغة التواصل لعامة الناس سرّه في حروفها التي هي إما: ساكنٌ أو مُتحرك، ومن هذه الملاحظة البسيطة بنى الفراهيدي أوزاناً تضبط إيقاع الشعر في خمسة عشر بحرًا، أو ما يُسْمى بعلم العروض (أضاف أحد تلاميذه البحر المتدارك لاحقًا). ولم يكتفِ بهذا؛ بل أسهم في تشكيل حروف لغتنا بالصورة التي نستخدمها اليوم، وابتكر أول معجم اسماه "العين" الذي شمل جذور كل كلمات العصر وصُوّرها المتنوعة، كما ألّف العديد من الكتب بأسلوبٍ علميٍ منطقيٍ ودقيق.

الحكمة الإلهية ومهارات المستقبل

يُعاتب المرء نفسه أحيانًا لأننا جميعًا نُركز على إكساب ناشئتنا وأنفسنا مهارات الحساب والعلوم واللغات والبرمجة، بينما الأساس الحقيقي لكل تقدم شهدته البشرية هي أن تسبق قِيَم الرحمة مهارات العِلم. ففي حادثة تاريخية جاء رسول والي فارس والأهواز سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة إلى دار الفراهيدي؛ ليخبره بأمر الوالي أن يترك الخليل تعليم عامة النَّاس الذين كرّس حياته لهم ليتفرّغ لتعليم أولاد الوالي! فما كان من الخليل إلا أن رد بأبياته الخالدة:

 

أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ // وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ

سَخّى بِنَفسي أَنّي لا أَرى أَحَدًا // يَموتُ هَزلاً وَلا يَبقى عَلى حالِ

وَإِنَّ بَينَ الغِنى وَالفَقرِ مَنزِلَةً / مَخطومَةً بِجَديدٍ لَيسَ بِالبالي

الرِزقُ عَن قَدَرٍ لا الضَعفُ يَنقُصُهُ // وَلا يَزيدُكَ فيهِ حَولُ مُحتالِ

إِن كانَ ضَنُّ سُلَيمانَ بِنائِلِهِ // فَاللَهِ أَفضَلُ مَسؤولٍ لِسُؤالِ

وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ // وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ

فما كان من الوالي سليمان بن حبيب إلا أن قطع أيّ أجرٍ بسيطٍ للفراهيدي. من حكمة الله عزَّ وجلَّ "أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" (الأنبياء: 105)؛ فالفراهيدي عاش وخلّد التاريخ علمه النافع، بينما سليمان الذي كان واليًا على أغنى نواحي الدولة الإسلامية لم يلبث إلا أن قطع الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور رأسه لثأر قديم بينهما؛ لأسباب مالية وبالكاد تذكر كتب التاريخ الوالي!!

حياة كل من يسبق فِكره عَصره تزيّنها ابتكارات لا تخلو من انكسارات، وحياة الفراهيدي لم تكن استثناءً، فقد آثر العُزلة بعد أن ظنَّه بعض أهله والمقربين منه وولاة الأمر "مجنونًا".

وكما شهدنا جميعًا في فترة هذه الجائحة- عافانا الله منها- فإن العُزلة تُؤثر في الصحة النفسية والعقلية والجسمانية لنا كبشر، فبينما كان عالِمُنا يسير وحيدًا متفكرًا إلى المسجد في سُبل تيسير حياة الناس حتى آخر لحظة من عُمره، بالمعنى الحرفي للكلمة، وفي ابتكار حساب يحمي البسطاء من النَّاس من الوقوع في الغش بالسوق، اصطدم بسارية مسجدِ وانتقل رحمه الله إلى جوار ربه متأثرًا بجراحه.

هذه دعوة لإعادة ضبط بوصلتنا والتركيز على قيم الرحمة والاعتناء ببعضنا البعض وبعباقرة أمتنا وهم أحياء ولنحوّل علمهم النافع لمنصات لمهارات المستقبل.

ربنا هب لنا من لدنك رحمةً وعِلمًا وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.