ظفار لم تعد مؤهلة للرعي

 

علي بن سالم كفيتان

ظفار لم تعُد مؤهلة للرعي، ربما هي الحقيقة الصادمة وفي ذات الوقت الواقع المؤلم؛ فمحافظة ظفار وحسب الدراسات البيئية المستندة لقياس المؤشرات الطبيعية فقدت 70% من نظمها البيئية خلال الـ50 عامًا الماضية، وما تبقى من تلك النظم أصبح منهكًا، ويكابد الظروف البشرية؛ المتمثلة في الرعي الجائر، والنشاط المفرط لممالك الحشرات التي بدأت هي الأخرى تبحث عن فرص للبقاء، والسباق المحموم للإنسان للاستحواذ على مساحات رعوية.. فمتى يصحو الضمير الإنساني في ظفار؟

فهل هناك إمكانية للعودة أم أصبحنا في مرحلة اللاعودة؟

أكتب هذه الكلمات بمرارة شديدة بعد أن شاهدتُ عشرات الأطفال والشباب يندفعون ببراءة إلى المراعي وهم يحملون أكياس بذور الأشجار المعمرة ليدفنوها في التربة، وهم يعلمون يقينًا أن هناك آلاف الأفواه ستأتي لاجتثاثها عندما تطل من تحت الأرض، ولعله الأكثر إيلامًا هو التحفظ والإحجام غير المُبرر من قبل الرعاة عن المشاركة في هذا الجهد الذي يستهدف بيئتهم.

يسيطر على الموقف البيئي في ظفار هاجسين رئيسين؛ وهما: الهاجس الحكومي الذي قدم عدة مبادرات خلال فترات ماضية؛ منها تخفيف قطعان الأبقار في الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، ومشروع تخفيف قطعان الإبل في 2004، وإنشاء المشاتل وتهيئة المسورات الرعوية، وبث التوعية عبر مختلف وسائل الإعلام؛ لكن كل تلك الجهود لم تكن كافية للحفاظ على المخزون الوافر للتنوع البيئي الذي كانت تتمتع به محافظة ظفار. وفي الجانب الآخر هناك هاجس الرعاة من سكان الجبال الذين لم يقدموا مبادرات فاعلة لعلاج المشكلة، إلا إذا اقترنت بالدعم الحكومي، ولم يروا أن مبادرات الحكومة سابقة الذكر كانت كافية، بينما ظل الجيل الجديد يتفرج على هذا الصراع، حتى انفجر خلال العامين الماضين من خلال بروز عدد من الناشطين البيئيين، والفرق التطوعية التي تركت المواجهة جانبًا، وأخذت المعاول وجمعت البذور، وتوجهت للمراعي لإحيائها بسواعد قضة وأدوات بدائية، علَّ هذا الإجراء يذيب الجليد، ويخلق واقعًا جديدًا عبر تصالح الرعاة مع بيئتهم، وقيام الجهات المعنية بمراجعة سياساتها تجاه الوضع البيئي المتدهور في جبال ظفار.

ولعله من العدالة هنا أن نُذكر الموقف الحازم الذي اتخذه معالي السيد وزير الدولة، ومحافظ ظفار منذ عقد من الزمن تقريبًا وهو وقف صرف الأراضي في الأرياف، وتجميد العمل بلائحة الإسكان الريفي تقريبًا، ورغم بعض الخروقات البسيطة للقرار، إلا أنه حافظ على آلاف المساحات الرعوية والغابوية في الجبال والسهول من الصراع المحموم؛ لاقتطاع مساحات شاسعة من المراعي وتغيير استخداماتها. وهنا لابد من الإشارة إلى الهاجس الذي يدفع المواطن للقيام بذلك في الأرياف، واعتراضهم المستمر على هذه السياسات، فربما انعدام الثقة وربما حب التملك والسيطرة المتجذر في هذه المجتمعات التي يحكمها العرف قبل القانون.

توقعتُ في هذا الخضم أن يكلِف مكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار بيت خبرة للقيام بدراسة اجتماعية متعمقة؛ للتعرف على القوى الدافعة لهذا الشعور لدى الريفيين بالتعاون مع جامعة السلطان قابوس أو أي جهة أخرى موثوقة، وحتماً الدراسة ستنقل كل التحفظات إلى أرض الواقع وسيتم اقتراح الحلول المناسبة لهذه الظاهرة المقلقة.

إن إنشاء هيئة البيئة ضمن التشكيلة الحكومة الأخيرة في أغسطس من العام الماضي ولد شعورًا عامًا بأن البيئة لم تعد ضمن الأولويات الحكومية في ظل الهيكلة الجديدة (إذ تغير وضعها من وزارة إلى هيئة)، والأمر ذاته في ظل تقليص الوضع الإداري والهيكلي للمراعي والغابات في وزارة الثروة الزراعية والسمكية، وموارد المياه إلى دائرة في المديرية العامة للثروة الحيوانية المنوط بها الحفاظ على المراعي الطبيعية، ومكافحة التصحر وتنظيم الرعي وتقييم الحمولات الرعوية، ومكافحة الآفات والنباتات الغازية، وغيرها من التحديات التي تواجه البيئة الرعوية في كافة ربوع السلطنة بشكل عام، ومحافظة ظفار خاصة، وكل ذلك ورد كمواد صريحة في قانون المراعي، والغابات وإدارة الثروة الحيوانية، لكن الموضوع على الرف منذ عام 2003.

إذا لم تُقدِم تلك المؤسسات على خطوات جريئة خلال الفترة المقبلة، فقد نفقد تمامًا ما تبقى من نظم بيئية تكافح للبقاء في جبال ظفار؛ فالجبال لم تعد الموقع المثالي للرعي في الوقت الحاضر في ظل تدهور الغطاء النباتي، وتراجع مستوى الإنتاجية الرعوية للهكتار الواحد إلى أقل من 25%؛ فالمراعي لم تعد تقدم للرعاة سوى النزر البسيط من الخدمات البيئية في ظل توفر الأعلاف المصنعة، وتحسن المعيشة التي دفعت بالملاك لزيادة القطعان دون توفر سياسة زراعية أو حيوانية لفتح منافذ للتسويق وتوفير الدعم، فالمشروعات المُعلنة غالبًا ما تتعثر، فاليوم المواطنون ينتظرون أن تستقبل شركة البشائر- ومقرها ولاية ثمريت- لحوم مواشيهم بينما هي تستورد من الخارج، وما زالت شركة المروج للألبان تترنح منذ عدة سنوات، مما يولِّد الشك وعدم الثقة في جدية تلك الجهات للحفاظ على البيئة الاستثنائية لمحافظة ظفار.