أنقذوا المجتمع

د. صالح الفهدي

ليس ثمة من خطرٍ أعظم، وأشدُّ وطأة على المجتمعِ من الأفكار الخبيثة المغشوشة؛ تلك التي تخفي مقاصدها ما يناقضُ ظاهرها! تلك التي يتلقَّفها من يظنُّ أنَّه يعييها، وهو بها جاهل، فيصبحُ هذا المدَّعي بالعلمِ أخطرُ على المجتمع من جاهلٍ لا يميِّزُ بين صالحٍ وطالح.

بصمتٍ مروِّعٍ تسري الأفكار السَّامة إلى عقول أبناءِ المجتمع، فتفقدهم الحصانة الهشَّة في أساسها؛ لأنَّها أفكارٌ يهيَّأُ لهم أنها أفكارٌ صائبة، ذات مصداقية، لا يشوبها الشَّك، وهنا يكمنُ الخطر في أن العقول التي تحتضنُ هذه الأفكار "اليقينية" لا تترك مجالاً لها للشك في "يقينيتها" في حين أنها تُقصي ما يعارضها، وتلغي ما ينافيها، وتحارب ما يخالفها، وهذه أعظم مثالبها، وأكبر آثامها!

إن الذين توصَّلوا إلى حقيقة الله، والإسلام هم الذين استقبلوا كل ما يَرِدُ عقولهم من أفكارٍ بعقليةٍ ناقدةٍ، وليس بإيمانٍ مُطلقٍ فيه، فهم لم يتشبَّثوا بفكرةٍ عمياء لقِّنوا إيَّاها من آخرين، أو تلقَّفوها من مصدرٍ ما، وهذا ما يفترضُ أن يفعلهُ الإنسان العاقل، بل ما يفعله من يدَّعي الثقافة على وجه الخصوص! فالعُقم يبدأ من العقول قبل أن تعفِّنه الأفكار الفاسدة، يقول المفكر غمكين كردستاني: "الأفكار والآراء السقيمة آفةٌ لا تصيب إلاَّ أصحاب العقول العقيمة".

وليس من الغريب أن يدَّعي الثقافةَ من يحملُ أفكارًا خدَّاعة، فيظنُّ بها واهمًا أنه قد امتلك مفاتيح الحقيقة، في حين أنَّهُ أجهلُ الناس بها، وأنَّه قد حاز زمام الفكرة التي لا يحيطُ بها الشكَّ لا من يديها ولا من خلفها، وليس أسوأ على الإنسان من الشعور بالفوقية على الآخرين سواءً أشعرَ بأنَّه مثقَّفٌ أو متديِّن..! و"هؤلاء وغيرهم ما هم إلا وقود الجهل الأكبر؛ لأن أوطانهم توسمت فيهم أن يكونوا أدوات للتنوير، لكنهم تحولوا بسبب ضعف مستوياتهم إلى أدوات هدم..!" كما تقول الكاتبة تمارة عماد.

وإذ تتهدَّد مجتمعنا أخطار تسمِّمُ عقولَ أبنائه فإنَّها لا تتهدَّدهُ في أوكارٍ منسيَّةٍ، أو زوايا مقصيَّةٍ، وإنما في صروحِ علمٍ يفترضُ أن يستقي منها ما يُصلحُ شأنه، ويرفعُ من منزلته، ويرقى من فكره، فحين تنتشرُ حركات الإلحادِ في جامعاتٍ أو كليَّاتٍ ُكلِّفت بأمانةٍ عظيمة وهي إعدادُ جيلٍ سليم الفكرِ لبناءِ مجتمع مزدهر، فإنَّها تصبحُ هي الأَوكار التي يستقي منها الأبناءُ السُّموم، ويتلقَّون فيها الأفكار الخبيثة المغشوشة التي تقفُ وراءها حركاتٌ أجنبيةٌ لها أجندتها التي تنشدُ ذوبان الهوية، وتفكك المجتمعات، وانسلاخها من قيمها.

في صروحِ العلم التي أمَّنها المجتمع؛ مؤسساتٍ وأُسرٍ على أبنائها، تنتشرُ حركاتُ الإلحاد، وحركات النسوية، بل وحركات المذهبية التي هي الأُخرى تطعن خاصرة المجتمع المتسامح، والمتعايش في سلامٍ مع بعضه البعض.

أما حركات الإلحادِ فقد كوَّنتها الأفكار المتمرِّدةُ أصلاً على الدينِ، والناقمةٌ على قيم المجتمع، فتسللَّت إلى عقولٍ غير ناضجةٍ لتوهمها بأنَّ الدِّين هو المعيقُ لتحضِّر الإنسان، والمعرقل لأسلوب الحياة العصرية، وما الحياة العصرية إلا تلك المنفلتة من عقال المسؤولية والانضباط والأخلاق! وفي المقابل صادفت هذه العقليات المغرَّر بها فراغًا دينيا، فلم تجد من يُصغي لها، ولا من يحاورها، ولا من يبسِّط لها اللغة التي تفهمها، وهذا ما دعت إليه سلامة الهنائية أخت شابَّةٍ انتحرت بسبب تبنِّيها هذه الأفكار الخدَّاعة، موجِّهةً خطابها للدعاةٍ: "انزلوا من أبراجكم العاجيَّةِ، اختلطوا بالشباب، افتحوا لهم قلوبكم، اسمعوا لهم، فهناك من الشباب من لديهم أسئلةً وجوديةً، لذلك يجب أن توضِّحوا لهم الطريق الصحيح"، هذا النزول من الأبراج العاجية للدعاة كثيرًا ما دعوتُ إليه شخصيًا، وذلك بتبسيط الخطاب الديني وترك التَّزمت في الخطاب، ومواءمته بلغة العصر.

سمعتُ ذلك من فتاةٍ جامعيَّة حين كنتُ مُستضافًا في جامعةٍ مرموقة وإلى جانبي أحدُ المحسوبين على الدعاة، حين قالت له من مكانها في أعلى مدرَّج يواجهنا: "أُريد أن أسألك سؤالاً جريئاً: هل تعترفون بفشل خطابكم الديني الموجّه للشباب؟ أجابها: وسأكون أَجرأَ منك فأُجيبك: نعم نعترف..!

هذا يعني أن المؤسسات المسؤولة دينية، أو تعليمية، أو اجتماعية تتحمَّل المسؤولية الأكبر ناهيكم عن الأُسرة التي تُعاني من فراغات عاطفية، وفكرية بين أفرادها، ما نتج عنه هذه القابلية للانزلاق إلى طريق الضلالة، والانحراف.

أما الحركات النسوية فهي شأنها كشأن غيرها من الحركات "التحرِّرية" في العالم ليس على صعيد انعتاق الحرية الإنسانية للعيش الكريم من ربقة الطغيان، والاحتلال، والظلم؛ بل التحرر من قيود الأخلاق والدين عامَّة، والتمرُّد على القيم العليا للمجتمعات، وقد عشنا في الغربِ وشاهدنا أقذع المشاهد التي لسنا بحاجةٍ للتدليل عليها اليوم؛ لأنها واضحةً جليَّة للعيان، هذه الحركة تدخلُ من أيَّةِ ثغرةٍ يُحدثها لها القابل لآفاتها السَّامة، فتسلل إلى وعيه، تسلل الأفعى من أيِّ منفذ إلى أروقةِ المنزل، فتجد– هذه الأفكار- من الجهلةِ من يستميتُ بها، وتصبحُ مثل لعبة "الحوت الأزرق" التي تتحكم في عقلية من يدمنها فتأمره بقتل والديه، أو الانتحار..! وهذا ما حدث في الواقع، وقد ذكرت ذلك أخت الشابة التي انتحرت أن الرسائل الخاصَّة بين أعضاء هذه الحركات تحثُّ على الانفلات من القيود وأولها نسف ولاية الأمر؛ سواءً من الأبِ أو غيره، ويعني ذلك إيصال أعضائها من الفتيات إلى انفلات الأخلاق، والتمرد على الدين وإنكار الإله، والانحلال الجنسي، فأينَ سيكون حينها موقع الأفكار "العظيمة" التي ينافح عنها من يدَّعي الثقافة؟!

أما نشر المذهبية فتلك مسألةٌ تحزُّ على النفس، وتؤلم الضمير؛ إذ إننا نباهي في هذا المجتمع الذي بنى أوشاجه، ووطَّد أركانه على احترام وتقدير المذاهب الدينية فيه، إنَّما أن يستغلَّ البعضُ هذا "التسامح" فيه، وهذا "المسكوتُ عنه" بنشرِ المذهبية فذلك أمرٌ لا يجب التهاونُ فيه، ولا يجب السكوتُ عليه، فإن كانتَ حركات الإلحاد والنسوية وغيرها من الحركات تتسلل بين عقليات لا تعي أضرارها، فإنَّ نشر المذهبية يقفُ وراءها من يُحسبُ فيه الرشدُ والصلاح في المجتمع!

على الجميع أن يُنقذَ مجتمعه مما يحاكُ له من دسائس– داخلية وخارجية- هي عبارةٍ عن أفكارٍ مدسوسةٍ، برَّاقةٍ في ظاهرها، ماكرةٍ في باطنها، وأوَّل من ينقذه هي السلطة التي تتولَّى تصريفَ أمره، وإدارة شؤونه، وإنقاذ المجتمع يتمُّ بتعزيز القيمِ فيه، فالأُمم لن تقوم لها دعائم بدون القيم، ولا يمكن لأيَّةِ سلطةٍ ترمي إلى تماسك المجتمع، والحفاظ على هويته أن تؤجِّل أيَّ مشروع لتعزيز القيم فهي طوق النجاةِ للمجتمع، وركنه الحضاري المتين.

على الأسرة من جانبها أن تُسهم في إنقاذ المجتمع بالتربية الفاضلة، والتنشئة الحسنة، والاعتناء بالأبناء أيَّما عناية، وعدم إحداث فراغٍ عاطفي بين الوالدين وبين أبناؤهم فهو المسؤولون في النهاية عن أيَّة عثرات يقع فيها أبناؤهم أو مزالق ينحرفون فيها، فذات يومٍ جاءني أبٌ يبكي على ابنه الذي حكم عليه بجريمة قتل ولم يصل ابنه العشرين بعد، فلم أواسيهِ وإنَّما حمَّلته المسؤولية فلم يكن يكترث لأخلاقيات رفاق ابنه، ولا متى يعودُ إلى البيت فقد خصص له سلَّمًا خاصَّاً يصلهُ بغرفته، فضلاً عن عدم قربه عاطفيًا وفكريًا من ابنه، فكانت النتيجة انحراف الابن وارتكابه جريمة قتل بالتعاون مع رفاقه..!

على المؤسسات الاجتماعية والصحية أن لا تكتفي بفتح دور أو مستشفيات ضحايا القضايا المختلفة، وإنما عليها أن تقوم بدور وقائي "فدرهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج" وقد سألتُ ذات مرة أخصائيًا في إحدى هذه المؤسسات: هل تقومون بدور وقائي قبل أن تقع هذه المصائب، وتفتحون الأبواب لاستقبال الضحايا؟ فأجاب: لا!

على المؤسسات التعليمية أن تقوم بمسؤولياتها على أكمل وجهٍ، فإن صروحها التنويرية لا تسلم من تفشِّي الأفكار الخبيثة الهدَّامة، وتكوُّن الحركات اللأخلاقية، والإلحادية فيها، فواجبها لا ينحصرُ في دروس ومحاضرات الفصول، وإنما في توعية العقول.

على المجتمع أن ينتبه؛ سلطةً حاكمةً، ومؤسساتٍ، وأفرادًا للأخطار التي تهدِّد هويته، وتتقصَّد كيانه، ولا يجب أن يقف ذلك عند مجرَّد رفع الشعارات، والتصريح بالكلام الكبير، وإنما بالتحرُّك الفعلي لمواجهة هذه الأخطار، وسنظلُّ ندعو إلى ذلك، ونعمل جاهدين من أجل ذلك بإمكاناتنا المتواضعة، متجاوزون فقر الدعم لجهودنا، ومصمِّون آذاننا عن حرب الشخصنة التي تمارسها بعض الجهات؛ لأن قلوبنا على سلامة مجتمعنا، وعلى أمن أوطاننا، والله وحده مُعيننا على هذا المسعى الحميد.   

 

 

 

الأكثر قراءة