اللقيط

 

عبدالله الفارسي

 

"من لم يرَ بغداد فهو لم يرَ شيئا" نزار قباني.

-----

اصغوا للحكايات ضعوها في قلوبكم، دعوا شذاها ينفذ إلى أعماقكم.. سمعتُ نصيحة نزار قباني فقررت أن أرى بغداد.

هذه قصة عميقة جدًا، حكتها لي سيدة عراقية أم لأربعة أبناء، تأملوها جيدًا فهي جديرة بالتأمل، فقد زرتُ العراق في العام 2012 فوجدته منهكًا ممزقًا مثخنًا بالجراح نازفًا من الأعماق صارخًا من الأوجاع، العراق العظيم بلد العقول والشموع والدموع وطن المآثر والمفاخر بلد المحازن والمآسي والفواجع.

عصرًا جمعتني الصدفة في إحدى شوارع بغداد العروبة بسيدة عراقية شامخة كالفرات، صلبة كبغداد، حزينة كالموصل مشرقة كالبصرة، سقيمة كالأهواز، دردشت معها ساعتين كاملتين، كان يجلس بجانبها رجل مُكتمل الجمال ناضج الرجولة في بواكير الأربعين من العمر يجثم حزن في عينيه، ويبرق أمل في صوته.

نهض، فسلَّم عليَّ بحرارة، وبعد دقائق من جلوسي قبَّل رأس أمه بكل خشوع وانصرف لشأن من شؤونه، فقالت لي السيدة: هذا ابني بالتبني، فقلت لها: واضح من نظرة عينيك إليه أنك تحملين في قلبك قصة عظيمة عن هذا الرجل! قالت: نعم، فأخبرتني قصة من أغرب القصص.

قالت لي: الحياة يا عبد الله تُلقنك دروسًا عجيبة وغريبة، والعراق أعظم مدارس الحياة في هذا الكون، ولايُمكن أن تفهم الحياة بسهولة، تحتاج إلى مهارات عقلية جبارة حتى تفهم مزاج الحياة وتدرك دعاباتها وتفسر آلاعيبها وتستوعب سخافاتها.

تقول السيدة: حين تزوجت كنت أشتهي طفلاً، كنت متلهفة للحمل متلهفة لأحضن طفلاً في صدري وأضمه بين جوانحي، كنت انتظر بلهفة ورعشة وأرق توقف العادة الشهرية كبشارة للحمل، ولكن للأسف في نهاية كل شهر كانت تأتي العادة مُخيبة أملي محطمة حلمي كاسرة لهفتي، كانت العادة الشهرية دقيقة في موعدها مُخلصة في حضورها وتدفقها. وبعد نزول كل دورة شهرية كنت أصاب بإحباط شديد وحزن عميق مصحوبًا ببكاء مرير.

مرت السنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، فزاد إحباطي وتفاقم يأسي، وتكاثف قنوطي. وحين أجرينا مزيدًا من الفحوصات أطلق الطبيب المختص على قلبي رصاصة الرحمة القاضية: الحمل مُستحيل، ولن تحملي أبدًا.

أصبتُ بانتكاسة نفسية عنيفة سقطت مريضة طريحة الفراش أكثر من شهرين، فحين تفقد المرأة أهم غريزة لديها وأجمل ما تتمناه تجف روحها بين ضلوعها فتتحول إلى دمية آدمية منفصلة عن واقعها سابحة في أفكارها، تتحول إلى شجرة ميتة، ذابلة الأغصان يابسة العيدان. وبعد أن تعافيت من صدمتي وتقبلت الحقيقة وامتصصت الصدمة وتكيفت مع واقعي قررنا أن نتبنى طفلاً وبشكل عاجل، وفعلًا، ذهبنا إلى المستشفى كانت هناك غرفة كبيرة مخصصة للأطفال الذين رفضتهم الحياة ولفظهم المُجتمع، فتخلى عنهم آباؤهم وأمهاتهم ورموهم على سلالم المساجد ومداخل المستشفيات كخرق بالية وكعلب فارغة، جعلوا منهم لقطاء يلتقطهم الناس ويسلمونهم للشرطة بعد التبليغ عن وجودهم. وكان هناك طفل عمره ستة أيام فقط، مرقد في سرير حديدي صغير. كان ما زال كتلة حمراء من اللحم لا يتجاوز وزنها الكيلوجرامين؛ وكأنه خارج توًا من رحم أمه. كان جميلاً، قرقع قلبي، وهزَّ أمومتي هزًا، وحين فتح عينيه الصغيرتين في وجهي رفرف بيديه الاثنتين كفرخٍ صغير جميل، وكأنه يود أن يطير بسرعة ليُعانقني ويلتصق بصدري، وكأن أمه المجرمة لم تمنحه حتى حضنة واحدة قبل أن تلغي به في شارع حقير مُتسخ، رمته وكأنه قطعة "كوتكس" مليئة بالنجاسة والعفن!

ما أبشعها من أمٍّ!

وقع اختياري عليه مُباشرة، أوَّل ما ضممته في صدري حقنني بدفقة من الأمان والإيمان، فعبأ خزان روحي الفارغ حنانًا وجمالاً ورضى ونشوة وبهجة، أحسست بأنَّ هذا الولد سيكون له شأن كبير في روحي وسيحتل مكانة عظيمة في حياتي. أخذنا طفلنا بعد أن سجلناه باسمنا واستلمنا وثيقة ميلاده. شعرتُ بالأمومة الجارفة تخرج من أعماقي وتتدفق من روحي نحو هذا الطفل المسكين، وتمنيت لو أملك حليبًا في صدري لأرضعه، تمنيت أن يمسك بثديي لتكتمل مشاعر الأمومة المتدفقة من صدري وأضلعي ليسيل حبي الجارف إلى جسده الضئيل وصدره الرقيق الهزيل، كنت مُستعدة أن أبيع كل ما أملك ليخرج الحليب من صدري ويلتقمه هذا الطفل الجميل المسكين، ولكن للأسف لم يذق الحليب إلا من خلال ثديٍ بلاستيكيٍ رخيصٍ. حسدتُ الرضاعة البلاستيكية طوال سنتين كاملتين.

وبعد أن أكمل الطفل عامه الثاني وذات نهارٍ بغدادي صاخب اكتشفت أنَّ دورتي الشهرية تأخرت عن موعدها المُعتاد، لم أفكر في شيء سوى أنه مجرد خلل في جهازي التناسلي واضطراب في هرموناتي. لكن حين تأخرت دورتي أيامًا وأسابيع وباغتني القيء وأصابني الدوار وفقدان الشهية، توجهت إلى المستشفى مُباشرة وكانت المفاجأة على لسان الطبيب: "أنتِ حامل".

يا سبحان الله! كيف، وتلك الفحوصات الكثيرة والنتائج الدقيقة قبل سنوات بسيطة، والتي تؤكد عجز رحمي عن أن يهب الحياة، وماذا عن هذا الطفل الذي تبنيناه بعد أن جزمتم لنا استحالة الحمل "أنتِ حامل، هكذا قرر ربُكِ".

لقد حملتُ فعلاً متحدية كل نبوءات العلم وقوانين البيولوجيا.

تقول السيدة: حملت المرة الأولى وأنجبت طفلاً، ثم حملت المرة الثانية وانجبت طفلاً، وحملت المرة الثالثة وأنجبت طفلاً وحملت المرة الرابعة وأنجبت طفلاً. أنجبت أربعة أبناء ذكورا، إضافة إلى ابننا المتبنى. كبر الأولاد، وأصبحوا شبابا أكتافهم عريضة ورقابهم طويلة وعضلاتهم قوية، كان ابننا المتبنى يكبر أولهم بثلاثة أعوام، وسبحان الله كان مختلفًا عنهم منذ صغره، كان حنونًا عليهم رقيقًا معهم، عطوفًا شفوقًا بهم. وكذلك كان معي ومع زوجي.

حين كان رضيعًا لم يبكِ يومًا، لا أتذكر أبدًا أنه بكى وأسمعنا صراخه، لم يزعجني يومًا ما، لم يوقظني من نومي ليلة ما، لم يكسر شيئًا، لم يدمر شيئًا، حتى المرض نادرًا ما كان يمرض، وإذا مرض يكون مرضه خفيفا وسريعا، وكأنه كان يقول لنا "يكفي أنكم التقطموني من الشارع ومنحتموني حياة وأبوة وأمومة".

لقد كان طفلاً مميزًا جدًا عكس إخوته، أبناء أحشائي الحقيقيين أبناء بطني، الذين أذاقوني مرارات من التعب وجرعات قوية مكثفة من السهر والعناء، بكاء وصياح وصراخ ومشاغبات مرض وإزعاج لا يُمكن أن يوصف ومُعاناة لا أستطيع سردها من كثرتها، بينما كان الآخر هادئا صامتا مطيعا مؤدبا أقصى درجات الأدب.

كبروا جميعهم بسرعة وصاروا شبابا ثم رجالا.. صرفنا على أبنائنا الحقيقيين كل ما نملك، علمناهم ودرسناهم في أفضل التخصصات والجامعات وبعنا لأجلهم أغلى وأثمن ما نملك. أما ابننا المتبنى فلم يكلفنا شيئًا، ولم يرغب أساسًا أن ندفع لأجله دينارًا واحدًا؛ حيث لم يرغب في مُواصلة تعليمه تقديرًا لظروفنا، فالتحق بالعمل في ورشة ألمنيوم حين بلغ السابعة عشرة من عمره، وكان يصرف على بيتنا من كل ما يحصل عليه من المال ولا يدخر شيئًا لنفسه، وكان يشتري لنا ولإخوته الهدايا كلما قبض راتبه الضئيل.

ليس هذا هو مربط الفرس وباب القفص وبيت القصيد.. كبر الأولاد وتزوجوا، ورحلوا مع زوجاتهم، باستثناء ابني المتبنى، الذي رفض الزواج، وعاش معي يتحجج بعدم رغبته في الزواج، كان يقول لي: أريدُ أن أعتني بك يا أمي ولا أرغب في أن أتركك، لا أرغب في امرأة تبعدني عنك.

يا سبحان الله، لا أحد من أبناء أحشائي قال لي هذه العبارة، بينما قالها هذا الذي أخذناه من المستشفى لقيطًا مرميًا؛ كدمية بلاستيكية مهشمة في سرير حديدي. وبعد إصرار وإلحاح مني أجبرته على الزواج، فاخترت له فتاة طيبة وعاشا معنا هو وزوجته. لا أحد من أبناء أحشائي رغب في الحياة معنا رغم كبر بيتنا واتساعه. هذا هو الوحيد الذي عاش معنا ولم يتركنا. كان يفضلني على زوجته، كان يقدمني عليها في كل شيء. لا يحضر غرضًا لزوجته قبل أن يحضر لي أولا ذات الغرض. كان ومازال بارًا بي، لا يشرب شيئاً قبل أن يسقيني ولا يأكل شيئًا قبل أن يطعمني.

ذات شتاء مرضتُ، وتم تنويمي في المستشفى، كان أولادي أبناء أحشائي يزورونني ساعة أو ساعتين ثم ينصرفون مع زوجاتهم، وهذا الابن العجيب لم يتحرك من المستشفى ثمانية أيام كاملة قضاها بجانب رأسي؛ بل استأجر لي غرفة خاصة بالمستشفى رغم ظروفه المادية الصعبة، دفع ثمنها بنفسه حتى ينام بجانبي ولا يتركني لحظة واحدة. كنت استيقظُ ليلاً فأراه فارشًا فراشه تحت سريري ونادرا ما رأيته غافياً أو نائمًا.

المؤسف أن ابني المتبنى لم ينجب أبدًا وحسب الفحوصات اتضح أنَّ الخلل كان منه، فطلبت زوجته الطلاق، فأطلق سراحها لتحظى بأولاد وتحقق رغبتها في الأمومة.

بعد ذلك أدركتُ الحكمة من عدم قدرته على الإنجاب، فمثل ذلك الرجل لا يتكرر، لا توجد منه نسخ كثيرة في هذا العالم، إنه إنسان نادر لذلك شاءت قدرة الله أن يكون عقيمًا.

وختمت السيدة: ما زال هذا الابن الوفي النادر وقد تجاوز الأربعين من عمره كما رأيته قبل لحظات بجانبي وكأنَّه طفلي المُدلل، يحرسني من نسمة الهواء، ويحميني من برد الشتاء، ويملأ بيتي وفاءً وجمالًا وغناءً. بينما أبناء أحشائي هاجروا إلى أوروبا منذ خمس سنوات، مصطحبين زوجاتهم يتواصلون معي هاتفيًا كل أسبوعين مرة واحدة، وأحيانًا في الشهر مرتين.

فسبحان الله الذي جعل من الغريب اللقيط ابني الحقيقي، وجعل من أبنائي الحقيقين غرباء عني في هذه الحياة اللقيطة.

وصدق من قال: "رُب أخٍ لك لم تلده أمك، ورب ابن لك لم يخرج من صلبك".