قراءة في كتاب "التأثير السيبراني: كيف يغير الإنترنت سلوك البشر؟" (4- 5)

 

عبيدلي العبيدلي

ما تلفت له المؤلفة هنا، هو أنه بمجرد أن يتغير السلوك في الفضاء الإلكتروني، حيث يشارك عدد كبير من الأشخاص، يمكن أن يتضاعف مرة أخرى ويصبح قاعدة في الحياة اليومية، وهو ما تطلق عليه الكاتبة صفة "الهجرة عبر الإنترنت". وبما أن المواجهة، أو التفاعل ليس مباشرا وماديا، فعندما نتواصل ونتفاعل مع الآخرين عبر الإنترنت، يمكن أن نكون مجهولين، والأهم من ذلك، نشعر أننا كذلك.

وضمن سيكولوجيا السيبرانية يسمى هذا السلوك المتهور «تأثير عدم التحفظ على الهواء». وكما تقول المؤلفة، كان أول من طرح هذا المفهوم جون سولر، والآن أصبح منتشراً ومقبولاً على نطاق واسع من قبل الأكاديميين المختصين في هذا المجال. هناك عاملٌ آخر يؤدي دوره هنا، درسته شخصياً وكتبت عنه، "التصعيد على الهواء". إنها تركيبة مفاهيم تبين كيف يمكن للسلوك أن يتضخم على الهواء، مثلما جرّب الكثيرون منا بشأن التغيرات السلبية على أثر تلقي إيميلات فاضحة، أو نصوص فيها شيء من العدوانية، ورسائل بذيئة وتعليقات على أشياء يقصد بها إثارة الانفعال. هذا لا يعني أن التكنولوجيا سيئة أو أنها جيدة.

عندما يكون الإنسان مجهولا يسقط من حساباته، بشكل غير واع مقاييس "العقد الاجتماعي" الذي ينظم العلاقات بين مكونات المجتمع المعني. ويتحول الجميع إلى أرقام مجهولة تتصرف بشكل مختلف. بدون ضغوط وقيود اجتماعية. وفي حقيقة الأمر تتصرف بشكل أكثر عدوانية واندفاعاً.

وعبر الإنترنت ينتقل المجتمع البشري برمته، وليس مجتمعا معينا، محددا، كما كان عليه الحال في النقلات التي شهدها العالم عبر الحقب المنية المتعاقبة التي طورت الحضارات الإنسانية المختلفة. كما أن الأمر يتجاوز هنا الضوابط الجغرافية والحدود الزمنية التي تولد التحولات الاجتماعية وتصاحبها. لذلك، وكما ترى الكاتبة نحن ننتقل، وبإرادة ذاتية منا، من الاختيار الطبيعي إلى الاختيار السيبراني. وكلما زادت المسافة بينك وبين الأشخاص الذين يمكن أن تؤذيهم، كلما كان ذلك أسهل على ضميرك.

وينجح مجتمع الويب المكرس لمثل هذه النقلات السريعة، والمترامية الأطراف في إضفاء الشرعية السلوكية على هذا الطابع الاجتماعي، الذي يتحول، وفي فترات سريعة جدا إلى نوع من المسلمات المجتمعية المقبولة، بل، وفي أحيان كثيرة، المستحسنة. ونجدها في حالات ليست استثنائية تحظى بالترويج غير الواعي من لدن أفراد كانوا يقفون ضدها في المجتمعات التقليدية.

قضية أخرى يثيرها الكتاب، ربما تبدو هامشية أو ثانوية، لكنها في غاية الأهمية، وهي تشويه قيمة الوقت. أو بالأحرى تلاشي الأهمية التي نوليها للوقت. فحتى انتشار الإنترنت كان الوقت، كما كنا نردد هو أغلى رأسمال يملكه الإنسان. وكنا، نحن العرب، نكرر قول المثل المشهور، الذي يثمن عالياً قيمة الزمن "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك".

لكن الإنترنت، نجحت، وهو أمر لا يمكن إنكاره، في تشويه تلك القيمة العالية التي كان يحظى بها الوقت في ضمير الإنسان. إذ يمكن أن يتسبب الاتصال بالإنترنت في تشويه مرور الوقت. وتشير أيكن إلى ذلك محذرة بأننا كبشر، تعلمنا أن نتتبع الوقت في العالم الحقيقي جيدًا. ولكن عندما نتصل بالإنترنت، فإننا على الفور "في مكان آخر"، وفي هذا المكان الجديد ليس لدينا المحامل المادية التي يمكن من خلالها توجيه أنفسنا. تتجلى هذه الظاهرة في أشياء مثل الانغماس الشديد في المحتوى عبر الإنترنت، حيث تمر ساعات وتشعر وكأنها دقائق، حتى تلك الأوقات التي تلتقط فيها هاتفك دون تفكير للتحقق من بريدك الإلكتروني، متناسيًا أنك فعلت ذلك منذ دقيقتين فقط. هنا تحذرنا أيكن من كون الإنترنت مكانا مُختلفا. فربما نكون جالسين على أريكتنا لكن الظروف والقيود التي تحيط بنا قد تغيرت تمامًا في الواقع.

سلوك اجتماعي آخر ينميه الإبحار على الإنترنت لدى الشباب والمراهقين وهو ما تصفه أيكن بـ "الإدمان على المكافآت الصغيرة والمقامرة". فرغم أن المستخدم يتجرع مكافآت الإنترنت على دفعات صغيرة، لكنها متكررة، وعلى فترات قصيرة، تم حسابها بدقة بعد دراسات سلوكية مستفيضة. مثل تلك المكافآت الصغيرة والمتقطعة، لكنها مستمرة، تعيد نفسها، وتتناسل مرارًا وتكرارًا. التعزيز المتقطع أكثر فاعلية في تحفيز الناس من المكافآت المستمرة.

تحذر أيكن من أنه مع القمار، ينتعش الإدمان، وتتكشف الدراما التي تخلق التوقعات، والتي غالبًا ما تكون متفائلة. والتي وُجدت لتوصيل القليل من الدوبامين إلى الدماغ. لا يستغرق الأمر ثانية أو اثنتين أو ثلاث، لكنها مثيرة، وتستفز لدى المستخدم الرغبة الملحة في المواصلة والانتظار، أملاً في الفوز. هنا يفرض القمار، ومعه الإدمان نفسهما على ذلك المراهق.

وفي تجارة القمار، يُطلق على هذا الإزعاج "سدادة القلب" ، لأنه يمكن أن يمنحك موجة من الإثارة، وقليل من المتعة. هذا هو التعزيز الإيجابي الكلاسيكي. لذلك حتى عندما لا تفوز، فإن ضجة الإثارة المؤقتة هذه كافية لتجلب لك بعض المتعة وتعزز سلوك مسح البطاقات. عندما يكافأ أي سلوك بسرور، فمن المرجح أن تكراره. يسمى هذا في تصميم اللعبة "الفشل الممتع".

حتى لو فشل المستخدم فشلا ذريعًا، فهو ليس بائسًا. لماذا ا؟ هذه المتعة البيوكيميائية تحدث فرقًا كبيرًا. يكافئ الإنترنت الاستكشاف: من المحتمل أن تكون مكافآت الدوبامين في البحث عن الطعام قد جعلت البشر أكثر قابلية للتكيف مع البيئات الجديدة. نحن نكافأ على الاستكشاف. تقوم بفحص هاتفك (بشكل متقطع) للحصول على أخبار جيدة أو مفاجئة، وهو ما يكفي لإبقائك على اطلاع. غرائزنا التطورية، مثل السعي، تجعل من الصعب المقاومة. ناهيك عن الخطافات والإشارات والتنبيهات والمحفزات وفشل المرح وسدادات القلب.

نحن نعيش الآن مرحلة فريدة حقاً من تاريخ البشرية، يتدفق فيها سيلٌ هائل من المعلومات، ونشهد خلالها الكثير من التحولات التي تشوش أفكارنا، وربما لن يشهد الناس مثيلاً لها. تحولات كأنها الزلزال في نمط العيش والتفكير بسبب الانتشار السريع للتقنيات الجديدة وهيمنتها على حياتنا اليومية، كل تلك الأشياء غيّرت علاقاتنا مع الآخرين، وأساليب أخرى.