"أو كلما اشتهيت اشتريت"؟!

 

خالد بن سعد الشنفري

كان الأهل قديمًا يذكروننا دائمًا بـ"سمِّ الله وكل بيمنيك وكل مما يليك" و"احترم واشكر النعمة ولا تسرف من غير حاجة فبالشكر تزداد النعم".

لم تكن حينها في بيوتنا سلال وأكياس قمامة لمخلفات الأكل، ما يمكن أكله من متبقي غداء الظهيرة الوجبة الأساسية يُحفظ في إناء لعدم وجود الثلاجة، وقد يؤكل في العشاء أو تجد من له حاجة إليه، وما قد لا يستساغ أكله يوضع في مكان مُعين في حوش البيت أو خلفه تقتات منه القطط والطيور.

كانوا يقولون لنا لا تسرفوا مثل أهل البليد (*) الذين كانوا يضيفون الذهب إلى خبزهم من كثرة ثرائهم، فخسف الله بمدينتهم التي كانت متفردة في ذلك العصر على مستوى المنطقة.

بارك الله في أرضنا التي نعيش على ثراها حين كنَّا نشكر ونكتفي بالموجود وإن قليل ومحدود، كان أسوتنا الصحابة الذين كانوا يربطون الحجارة على بطونهم من الجوع حال الأزمات وقدوتنا رسولنا القائد صلى الله عليه وسلم، الذي كان يربط الحجرين معًا رغم أننا لم نصل لهذه الدرجة والحمد لله؛ فلم ينقطع رزقها حتى في أيام الحروب العالمية وتوقف التجارة البحرية. عشنا وعاش قبلنا أهلنا وأجدادنا على خيرات ما تجود به بحارنا وزراعتنا وضرعنا وبوسائل وأدوات صيد وزراعة متواضعة.

من الموروث الظفاري بالدارجة الظفارية أتذكر: ""الحالي على الجارز بغى له براض"؛ أي التمر مع لب ثمر النارجيل اليابس (الجارز) يحتاج فسحة ريضة من الوقت للاستمتاع والتلذذ بأكله، إنها منتهى القناعة والرضا بنعم الرب. ويقال أيضًا باللهجة الجبّالية: "تور باااصود انّا آر سعود"؛ أي التمر والسمك، و"انّا آر سعود" بشد النون تعنى ابن أمه سعود للعزوة بها تقديرًا وحبًا، رغم أن أهل الجبال كانوا حينها لا يميلون لأكل السمك كثيرًا مثل أهل المدن.

دوام الحال من المحال.. فتح الله علينا أبواب رحمته بنهضتنا المباركة وتجاوزنا بعون الله سريعًا ثالوث الجهل والمرض والفقر، وحلَّ بعد الفقر رخاءٌ، فهل راعينا الحدود في هذا الرخاء؟! سؤال يجب على كل منِّا أن يجيب عليه بنفسه وعليه أن يقارن بينه وبين غيره من الشعوب حواليه ويشكر ما هو فيه من نعمة.. تهون مصيبتك إذا عرفت مصائب غيرك.

يُلاحظ أنه قد أصبح ديدننا مؤخرًا، التحسر والتأسف والتأفف من حالنا، أخشى أن نورث هذا الإحباط الزائد والسلبية التي تهدم ولا تبني إلى أجيالنا بدلاً من بث روح الأمل فيهم، وقبل ذلك كله نغرس فيهم التوكل على الله في كل أمورهم.

لقد أصبح لزامًا علينا أن نعمل على ترتيب أولوياتنا ونقلل من نمط حياتنا الاستهلاكية الحالية.

لقد تجاوزنا خلال المرحلة السابقة اللامعقول في كل ما يخص حياتنا أساليب حياتنا المعيشية. فمناسبة كالزواج طبيعية بين البشر ومطلب شرعي، لكننا رفعنا تكاليفه من ثوبين أو ثلاثة وقنينة عطر وعلبة بخور ومندوس (صندوق) وسرير ومهر في حدود عشرات الريالات، إلى أن أصبحنا بصدد أمور ما أنزل الله بها من سلطان، من مقتنيات وأثاث وعطور وهدايا ذهبية وخلافه للحد الذي بلغ فيه البخور لوحده في صلالة ما قارب الألف ريال، ومهر تجاوز بعضه عشرات الآلاف وأقله 6 و7 و10 آلاف، وحدِّث ولا حرج في مآتمنا وكل مناسباتنا.

كنا نعتمد على حمار أو جمل لقضاء مشاورينا ونقل متاعنا وأصبح تحت بيت كل منِّا ثلاث وأربع سيارات وأكثر. كانت بيوتنا ممتدة بمن فيها لا بكبر حجمها، عاش أبناؤنا وسطها بحب وتعاون ولحمة، فعددنا البيوت وكبرناها حجمًا وملأناها بالخدم والحشم، وزادت مع ذلك طلبات الطعام من خارج البيت، رغم وجود أحدث أجهزة الطبخ والتنظيف والغسيل، زودنا كل من يبلغ الفطام منِّا في البيت بموبايل آيفون وكان ثمنه يكفي لاقتناء هواتف محمولة تفي بالغرض نفسه لكل أهل البيت وماضون في دعم شركات الاتصالات ونعلم أنها تتفنن في الاقتصاص منِّا.

أما آن وقت التغيير؟ والوقوف وقفة مع النفس قبل كل شيء؟ أليست أزماتنا الاقتصادية هذه وأزمة كورونا درسًا قاسيًا ووقتًا مناسبًا لنبدأ التغيير؟! هذا لا يعني بالطبع أن لا نطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد؛ فهو واجب وطني على كل واحد منِّا وحق مشروع؛ فالفساد وإن كان سببًا رئيسًا من أسباب ما وصلت إليه بلادنا، إلا أنه ليس كلها بالطبع، فأسلوب حياتنا وسوء تقنين استهلاكاتنا المعيشية والمادية عموما وفي كل شؤونا، سبب رئيس لا يقل عن ما ينخره الفساد في بلادنا، وبوادر ما كنَّا مقبلين عليه وحصل الآن قد تبدت لنا منذ سنين ليست بالقصير. لكننا للأسف عزّ علينا أن نغير ما بأنفسنا، لكن التغيير الآن بيد كل منِّا، فلنبدأ التغير، لابُد أن نعي أنَّ مجتمعنا لم يعد ذلك المجتمع المتجانس والمتساوي إلا ما ندر فالعكس صحيح، إذ تشكلت طبقات بيننا أثرياء وميسورين ومستورين ومُعسرين، رغم أنه قد تجمعنا قبيلة واحدة ومنطقه سكنية واحدة، فلا يجب أن يقلد المستور ما يدفعه ويتباهى به الثري مهرا أو حفلة أو سيارة أو رحلات للخارج، كما كان يحصل سابقًا في عز رخائنا العام.. لقد جفت الأقلام وطويت الصحف على حقبة زمنية وعلينا أن نتماشى ونتلاءم مع ما نعيش الآن.

من أجل كل هذا ومن أجل مستقبل هادئ على الأقل، إذا لم يكن هانئاً لأبنائنا الذين لا نحن أعددناهم وربيناهم على قطع دابر حياة الاستهلاك والاقتصاد في حياتهم! لا تغل يدك إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا، ولم يعد باستطاعتنا توفير متطلبات ذلك لهم من جانب آخر.

في النهاية.. ما زلنا بألف خير وخير، لكن كله مرهون بأيدينا.. فلنلتفت له قبل فوات الأوان..

--------------

*لا أدري هل كانوا يعتقدون ذلك عن أهل البليد (حاشاهم بعد أن عرفنا عنهم ما كتبه المؤرخون الكبار الذين زاروها) أو أنه كان مجرد أسلوب تربية لمجرد اتعاظ الأبناء؟!