فقر التعلُّم
د. صالح الفهدي
أُشبِّهُ فقرُ التعلم بفقرُ الدَّم!! ففي حين يعني فقر الدم (الأنيميا) حالة طبية تتميز بعدم وجود كمية كافية من خلايا الدم الحمراء في الجسم لتنقل كمية كافية من الأكسجين إلى الأنسجة، فإن فقر التعلم يعني عدم القدرة على قراءة نص بسيط وفهمه في سن العاشرة، ووجهُ الشبه هنا هو تعطُّل قدرة الدم في الأول لنقل الأُكسجين إلى الأنسجةِ، وتعطُّل قدرة التعلُّم في الثاني لنقل معنى الكلام إلى الدماغ.
تُشير البيانات الواردة في تقرير البنك الدولي إلى أن 53٪ من الأطفال في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل يُعانون من فقر التعلم. ومعدل التقدم في الحد من فقر التعلم بطيء إلى درجة لا تُلبي الطموحات الواردة في الهدف الرابع من أهداف التنمية المُستدامة لضمان جودة التعليم الشامل والعادل. وفي ظل معدل التحسن الحالي، سيظل نحو 43٪ من الأطفال يعانون من فقر التعلم في عام 2030. وإذا قلصت البلدان من مستوى فقر التعلم بأسرع معدلات شهدناها حتى الآن في هذا القرن، فإن المعدل العالمي لفقر التعلم سينخفض إلى 28٪.
وإذا كان التعريف السابق لفقر التعلُّم يحصرُ عدم القدرة على قراءة نص وفهمه في سن العاشرة، فلدينا طلاب لديهم فقر تعلُّم وهم في سن ثمانية عشر عامًا أي أنهم أنهوا المرحلة المدرسية..! والإشكالية التي تقفُ وراءَ ذلك هو نوع التعليم الذي يتلقونه، ولا يُشاركون في صنعه!
ويبوح العديد من أعضاء لجان المقابلات بقصص عجيبة حول (فقر التَّعلم) لطلَّاب الدبلوم العام أو حتى الجامعات، يقول د. محمد بن رضا اللواتي:" كنتُ رئيسَ لجنةٍ لاختيار مرشَّحين لوظيفة معينة من خريجي الثانوية العامة حصيلتهم من التعليم أنهم لا يعرفون كتابة جملةٍ عربيةٍ مفيدة، أمَّا الإنجليزية فحدِّث ولا حرج، وكانت الوظيفة المعروضة تقتضي: الأمانة، والوازع الديني، فكانت النتيجة أنَّ: أُمَّ النبيِّ عائشة، وزوجته فاطمة، وابنته حليمة السعدية..!!.
يقال: اقرأ لي سأحفظ لمدة ساعة، أسمعني سأحفظ لمدة يوم، شاركني التجربة سأحفظ طيلة عمري، والمشاركة في التجربة تعني المشاركة في صناعة المادة، والنص، وهذا بدوره يكرِّس فهم التعلم وليس مجرَّد حفظه، ولهذا ليس بالغريب أن تجدَ شاباً يُناهز العشرين من عمره لا يستطيع أن يقرأ نصًا قصيرًا ولا يفهمه، بل ولا يستطيع أن يُنشأ جملةً من الجمل، أو أن يكتب مسودَّة رسالة..! ما قيمة تعلُّمهِ إذن؟!
لقد أدَّى إغراق الطالب بمقررات لا فائدة منها إلى نفوره أولاً من لغته العربية التي استوحشها أبنائها بسبب القواعد والنحو والتطبيقات التي لم يخرج منها الغالبية العُظمى بشيء..! وحينما قال عبدالرحمن أبومالح في برنامجه بإذاعة (ثمانية) للدكتورة هنادا طه أستاذة كرسي اللغة العربية في جامعة زايد: درسنا النحو والصرف والقواعد في المراحل الإبتدائية والمتوسطة، أي أن اللغة العربية كانت حاضرة طوال مراحل الدراسة، قالت الدكتورة: سؤالي لك: هل تعلَّمت العربية؟ فقال: لا، إلى حدٍّ ما، أتكلم على السليقة، ولكني لا أعرف الإعراب عدا الفاعل والمفعول به، فقالت: أنت لست مختصًا بالعربية، وليس المطلوب للمتخرج من الثانوية أن يكون سيبويه أو أبو الأسود الدؤلي، المطلوب أن يكتب بشكل معقول، صحيح، إلى حدٍّ بعيد، أن يستطيع التحدث بالفصيح بشكلٍ معقول، ممكن أن يُسكِّنَ الكلمات، ولكن لديه المفردات، وأن لا ُيقْحِمَ المفردات الأجنبية، ولديه سلاسة في الحديث بشكلٍ معقول، وأن يقرأ ويفهم"
فإذا قاربنا بين ما قالته د. هنادا وبين الواقع الراهن وجدنا الإشكال حاضرًا في تعلُّم اللغة العربية، ونفور أبنائها عنها بسبب إغراقها في المدارسِ بالتطبيقات والنحو والصرف وغيره، ولو أن هذه المساحات قد استثمرت في جماليات اللغة العربية، وفي قراءة القصص العربية، وفي البلاغة، وفي النصوص الجميلة، وفي المطالعات المختلفة، وفي التدرب على إنشاء المواضيع، والتوصيفات، لتخرَّج طلابًا وهم على حبٍّ للغتهم العربية أولاً، وعلى قدرةٍ للتحدث بها، واستخدامها في حياتهم بيسرٍ وسلاسة.
لقد مالَ الكثير من أبناءِ اللغة العربية إلى التحدث بالإنجليزية، أو استخدام مفرداتها في الحديث بسبب تهرًّبهم من التعقيدات التي شابت تعليم اللغة العربية، وبسبب طرق التدريس التي ظلَّت على حالها لم تتقدَّم، في حين أن اللغة الإنجليزية استخدمت القصص الجذابة بصوره،ا وطرق إخراجها في تحبيبها إلى المتعلمين. والإشكالية الناتجة في هذا الميول إلى لغة أُخرى كبيرة؛ لأنها تضرُّ بالهوية فالذي يتحدث لغة غير لغته مفضلاً إياها على لغته فإنه ينسلخ من ثقافته، ويتلبَّس أثواب الثقافات المنتمية لتلك اللغة، وهنا فإن سُيعاني من حالة إنفصام حاد في تفكيره، وفي انتمائه، وفي هويته، وهذا يسبب له تذبذبًا في الشخصية، وفي حياته العامة..!
نعودُ إلى (فقر التعلم) الذي يختلفُ عن (فقر التعليم)، فقد يحدث فقر التعلم مع عدم وجود فقر التعليم، إذ قد يظن القائمون على التعليم أن هناك إغراقًا للطالب في المواد، وأن فيها كفاية لتنمية وعيه ومهاراته، فإنهم لا يلتفتون إلى تقييم المخرجات لهذا التعليم، ولا يراجعون السياسات القائمة على التعليم، ولا ينظرون في الإشكاليات التي أحدثت فقر التعلم، فجعلت طالبًا قضى اثني عشر عامًا من عمره يتعلَّم ثم يخرج من المدرسة، وهو لا يستطيع أن يقرأ نصَّا قصيرًا ويفهمه، أو يُنشأ موضوعًا، أو يكتب رسالةً، أو يتحدث بسلاسة بلغته العربية، أو يحاور بها، أو حتى لا يستطيع أن يتقوَّل جملاً في مختلف المناسبات الاجتماعية!!.
إن القضية هُنا ليست مجرَّد (قراءة نص قصيرٍ وفهمه) وإنَّما تتعلَّق بمهارة التفكير، والتمحيص، والنقد، وهُنا تكمنُ العلَّة الحقيقية في (فقر التَّعلُّم) مما يستلزم الاعتناء بتنمية هذه المهارات جميعها، وليس مجرد الاكتفاء بعملية القراءة السطحية التي لا تخرِّجُ إلا قارئًا آليًا..!
هذا الأمر يدفعنا حتمًا إلى تغيير مفاهيمنا عن التعليم، ومراجعة أهدافه، حتى لا يسبب فقر التعلم، فقرًا في الوعي، ويسبب ذلك فقرًا اقتصاديًا في تنمية الأوطان، وفقرًا فكريًا في عقلية الإنسان.