مسوخ بشرية (2)

 

رهف هلال العولقي

 

أنهى محادثته وأغلق الهاتف، وتركها تتقلب فوق براكين الخوف والقلق والترقب، مشدوهة مصدومة، لا يبرح تفكيرها المنهك ذلك الانقلاب والتبدل الذي أبداه هذا الشاب القاسي، والذي تحول من شخص حنون لطيف، أو على الأقل هكذا كان يبدو لتفكيرها الساذج، إلى وحش كاسر يُعيد إلى ذاكرتها البائسة وجه زوجة أبيها القاتم.

لم تنم أبدًا، خنقها القلق واعتصرها الأسى، وحاصرها الخوف من كل حدب وصوب، حاولت أن تُراسله لكنه لم يرد.

أطلقت الشمس أشعتها، منعكسة على وجه تفاني فبدأ باهتًا ذابلًا، وعيناها غائرتان حزينتان، تعبران عن حال صاحبتهما المنهكة، والتي لم تذق طعم النوم. وفجأة رنَّ هاتفها فردت مسرعة:

-"ألو سالم ماذا تفعل بي، ما الذي جنيته؟! أين ذلك الملاك الحارس لي ما الذي غيرك وبدلك؟!"

لم يأبه سالم لصوتها المخنوق وعبراتها المنهمرة، ولم تحرك له ساكناً رجفة حبالها الصوتية، وهي بالكاد تستطيع الحديث فقال:

-"ستجديني منتظرًا أمام الكلية، سنقضي يومًا جميلًا معًا."

-"كلا يا سالم، لا استطيع، لا استطيع،...فلا ترغمني على فعل شيء لا أتمناه، إن كنت تحبني فعلاً فأذهب لوالدي وأطلب يدي منه،.....أتوسل إليك لا تفعل هذا بي."

-"اسمعي، كل صورك الخاصة التي في هاتفك غدت عندي، وإن لم تخرجي اليوم سأرسلها لزوجة أبيك، وحينها تحملي عواقب الأمور، إن كنت تستطيعين التحمل."

-ماذا تقووووووول؟؟!

-"كما سمعت أتذكرين الرابط الذي جاءك، قبل تعارفنا، من أجل تحديث البيانات، لقد تمكنت من اختراق هاتفك والولوج إلى كافة البيانات والمعلومات فيه، أعرف عنك كل شيء، وأنت الآن ملك يدي، ورهن إشارتي، الآن ستخرجين وترافقينني، ولا تكثري من الحديث، أنا سأنتظرك هناك."

-"سالم امنحني مُهلة، يومين فقط، وسوف أنفذ لك كل ما تُريد، لكن ليس اليوم، فأنا لم أنم الليل كله."

-مممم ! حسنًا سأدعك تفكرين، وسنلغي خطة هذا النهار، هذا فقط لأني أعرف أنك أعقل من أن تتلاعبي بي، وسوف أرسل لك هدية صغيرة كعينة من الصور التي بحوزتي."

انهارت تفاني بعد المحادثة، وكاد قلبها الصغير البريء أن يتوقف، فكرت في كل الكلمات التي كانت ترددها زوجة أبيها، أيتها القبيحة أيتها الفاشلة أنت لا تصلحين لشيء أنت مجلبة للخزي والعار إلخ إلخ.

استقلت تفاني الحافلة منطلقة لقريتها الجبلية، دلفت إلى المنزل دون أن يحس بها أحد، اختطفت قلمًا وخطت رسالة مقتضبة لوالدها:

-"أبي، أعلم أني قد مت منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها أمي هذه الحياة البائسة، لم أجد طعم راحة أو حنان من زوجتك، كان لي الحظ الوافر من الضرب والإهانة، وكانت حياتي مجرد وهم، ظننت يومًا أني استطيع أن أغيرها، حلمت يومًا أن أتزوج رجلًا سويًا، يحتضنني ويعوضني عن ما فات، أن أنشئ أسرة وأستقل بعيدًا، أن أنجب أطفالًا وأمنحهم العطف والحنان الذي افتقدته طوال حياتي لديكم، أبي سامحني فأنا لم استطع أن أبيع كرامتي وشرفي رغم ما تلقيته من التهديد من رجل ظننته سيكون المُنقذ، لم أقابله قط، واقتصر حديثي معه عبر الهاتف، ظننته ملاكًا ولكنه شيطان في ثوب حمل، فأمسى شظايا من سعير، ولهيب من نار، سأرحل عن هذا العالم لأحافظ على ما تبقى من أخلاقي ومبادئي، ولألتحق بسكينتي التي لم أعرفها يومًا، أدرك تمام الإدراك، أني أخطأت حين منحت ثقتي  للشخص الخطأ، لكني تعلقت بوهم الخديعة، هربًا من الجحيم الذي أعيشه، لا أستطيع أن أقدم الآن أكثر من حياتي، فأنا لا أرغب في أن يستغلني أحدهم، لذلك أعلم يا أبتي أن ابنتك طاهرة عفيفة وشريفة، ولهذا قررت أن أموت بسلام، سامحني يا أبي، وأنا أيضًا قد سامحتك، فلا أملك شيئًا أو خيارًا سوى المسامحة، وداعًا، وداعًا..

ختمت رسالتها التي تبللت بدموعها الحرى، وطوتها في كفها بانكسار، ثم تسللت في جنح الليل مرهقة تعبة، وصلت لأعلى قمة قريبة من قريتها، وضعت الرسالة تحت حجر لكي لا تطير مع الرياح، ووقفت يلفها شبح الموت الأسود، ونادت بصوت عال:

-"أيها الموت لقد جئتك، وأنا إليك قادمة، فهل تستقبلني بعد أن رفضني الجميع؟، هل ستريحني من هذا الجسد المنهك؟ وتطلق روحي التي تهشمت من قسوة البشر، هآنذا جئتك أرفض، وألفظ كل أشكال الحياة التي هي أقسى منك."

سمعت صوتا قادمًا من خلفها يقول:

-"الموت أحيانًا يرفض من يأتونه جبناء."

التفتت لترى شبح إنسان يقترب منها، لكنها لم تعد تخشى شيئًا، حاولت أن تتبين ملامح ذلك الشبح وقالت:

-"ومن أنت.؟"

-"أنا من تنادينه!"

-"إذن ستجدني في قعر الوادي."

 حاولت القفز لكنه التقطها بخفة وبسرعة وأعادها للوراء، أرادت ضربه ومقاومته إلا أنه أحكم قبضته عليها، وكان هادئًا رزينًا مُحافظًا على نبرة صوته، فخارت قواها ووقعت على الأرض جسدا خواء، تسبقها دموعها التي لا تجف ولا ترقأ.

-"مهما كان الذي تهربين منه، فإنك لن تحلينه بالموت."

ردت وبانكسار شديد:

-"أنت لا تعرف شيئًا."

-" أيتها الفتاة، أروي لي قصتك، وإن لم أستطع حلها سأساعدك على الانتحار، اتفقنا؟."

ترددت قليلًا، فالتعب والإنهاك قد أخذا منها كل مأخذ، وقد أنهيا أي مقاومة جسدية، وافقت وأشارت للرسالة فقرأها.

وبعد أن عرف قصتها ذلك الشبح الآدمي قال لها:

-"سيُسجن ذلك الوغد، سيُسجن ذلك المسخ البشري، أعدك بذلك، وستحظين بالدعم النفسي، وستعودين لجامعتك، وسوف تتأدب خالتك زوجة أبيك، وتحسن مُعاملتها لك،....ألا يكفيك هذا؟

-"وكيف ستمنع وصول الصور لأبي وخالتي وأهلي؟

استل الآدمي الشبح هاتفه المحمول، وطلب رقم الشاب سالم، واتصل به، لتدور بينهما مُحادثة مطولة، بعد أن عرَّف بنفسه كضابط شرطة، مبلغاً إياه بأنَّه سيتم القبض عليه بتهمة الابتزاز، وإن نشر أية صور أو معلومات عن تفاني ستُواجه بأشد أنواع العقاب وحسب القانون.

-سمعت تفاني الشاب يبكي أو يتباكى وهو يقول:

-"والله ما فعلت شيئًا من هذا ولا أعرف فتاة بهذا الاسم."

-"اسمع، معك المُقدم محمد، وغدًا صباحًا ستأتي لتوقع التعهد، والنظر في قضيتك، وما لم تفعل فسوف يتم التعميم عليك ليزج بك في غياهب السجون، كل الأدلة موجودة وموثقة ضدك، ربما إن سامحتك صاحبة الشأن تخف عقوبتك، لكن في كل الأحوال، غدا صباحًا تأتي حسب ما اتفقنا."

لم تصدق تفاني ما تسمعه أذناها المرهفتان، ولكنها شعرت بنوع ما من الطمأنينة، يا لهذا اللطف الإلهي، قبل ساعة واحدة كانت ستكون من الماضي.

أعادها المقدم لمنزلها وقال لها:

-"نامي الآن، وغدًا ستحل كل مشاكلك أعدك، خالتك أيضًا ستكتب تعهد بعدم الإساء إليك، وسنُعالج هذا الأمر ولن تتجرأ على ضربك أو إهانتك مهما بلغت الأسباب."

انتهت قصة سالم، وعولجت قضية زوجة الأب، ولكن ذلك الجرح القديم في صدر تفاني رغم أنَّه لا ينسى إلا أنه صقلها لتصبح أقوى وأكثر إصراراً على النجاح، وفي خمسة أعوام لاحقة حققت نجاحًا باهرًا، فبعد تخرجها حصلت على وظيفة مكنتها من مساعدة كل أولئك الفتيات اللائي مررن بقصص مُشابهة لما حدث معها، فكانت مصدرًا لبث الوعي بالقانون الذي يحمي كرامة الإنسان ويقضي على تلك المسوخ البشرية.

تعليق عبر الفيس بوك