التحويلات النقدية إلى الخارج

 

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي **

** باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

 

 

منذ عدة سنوات يكثر الحديث عمَّا يسمى "التجارة المستترة"، التي هي ببساطة قيام الأجانب بمُمارسة أنشطة اقتصادية وتجارية خارج القوانين المنظمة لذلك. وفي نفس السياق كثرت الدعوات، في السنوات العشر الأخيرة حين تباطأ النمو الاقتصادي وقلت فرص العمل، إلى تقييد التحويلات النقدية إلى الخارج.

وتركز أكثر تلك الدعوات على تحويلات العمال، بدعوى أنَّ معظمها ناتج عن ممارسة العمال الأجانب لأنشطة اقتصادية وتجارية بشكل غير قانوني متسترين بكفيل يفترض أنه استقدمهم للعمل لديه بأجر حسبما ينظمه قانون العمل وليس للعمل لحسابهم. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى أنَّ بعض العمال الأجانب يحولون إلى الخارج مبالغ تزيد بكثير عن الرواتب التي يفترض أنهم يتقاضونها من مشغليهم أوكفلائهم. قليل مما يتم طرحه حول التحويلات النقدية إلى الخارج يتطرق إلى تحويلات الشركات الأجنبية أو الشركاء الأجانب في الشركات العاملة في البلاد للأرباح التي يحققونها، مع أنَّ حجمها يفوق كثيرا حجم تحويلات العمال.

وعلى كثرة ما قيل في الموضوع فإنَّ هذا المقال قد لا يأتي بجديد فيه، لكن قد يكون من المُفيد  تناول بعض الجوانب، سواء لوصف الموضوع ذاته أو لتحليل ونقد بعض ما ورد حوله من آراء، مع التذكير بأنَّ للموضوع جوانب إنسانية وحقوقية وجوانب تتعلق بالاقتصاد والقانون، سواء من حيث السيطرة على استنزاف الموارد أو من حيث تقوية التنافسية. ولكن قبل الدخول في التفاصيل، لابُد من الإشارة إلى أن بعض ما يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي حول الوافدين عامة وبعض الجنسيات خاصة، هو أشبه بزلات لسان وليست من الرشد ولا من العدل في شيء، ولا تراعي العادات والقيم العُمانية العربية الإسلامية القائمة على الإحسان والتراحم، وعلى النخوة وإكرام الضيف. وكما هو معروف فإنَّ عُمان كانت على مدى الأزمان ملتقى التجار وطريق التجارة، فقد وُصفت صحار مثلاً بأنها "خزانة الدنيا"، وما كان لها أن تكون كذلك لو لم يشعر فيها أهلها والقادمون إليها بالأمن والاطمئنان، وكذلك كانت قلهات وحاسك ومرباط وغيرها من مناطق عُمان "طوديها وسيفها".

لا بأس هنا من التذكير بأن حجم التحويلات النقدية إلى الخارج التي تمَّت عبر البنوك والمؤسسات المصرفية المسجلة قد بلغت في عام 2019 حوالي 3.5 مليار ريال عُماني، مسجلة انخفاضا عما كانت عليه في عام 2018 بسبب مغادرة أعداد من العمال الأجانب، ويتوقع أن يكون الانخفاض أكبر في عام 2020 وفي العام الحالي 2021 لأنَّ المغادرين أكبر بكثير من الذين غادروا في عام 2019، مع الإشارة إلى أنه قد تكون هناك مبالغ أخرى أخرجت بطرق مختلفة ولم تسجل رسمياً.

ينادي البعض بفرض رسوم على التحويلات النقدية إلى الخارج، وكما قلنا أعلاه فإنَّ أكثرية من ينادون بذلك يقصدون تحويلات العمال، وقليل من يذكر تحويلات أرباح الاستثمار سواء كانت ناتجة عن استثمارات مباشرة للشركات العاملة في البلاد أوعن استثمارات غير مُباشرة لأفراد أومؤسسات في سوق المال. وبالرغم من أن التحويلات النقدية إلى الخارج تشكل جميعها ضغوطاً على ميزان المدفوعات واستنزافاً لجانب كبير من الموارد الاقتصادية، لكنه يجب التفريق فيما يمكن اتخاذه تجاه تحويلات العمالة الأجنبية وتجاه تحويلات أرباح أومستحقات الشركات. فبالنسبة لتحويلات العمال فلا أرى فرض أي نوع من القيود عليها؛ حيث إنَّ ذلك سيزيد من تكاليف تشغيل العمالة الوافدة؛ لأنَّ العامل لن يقبل بالأجر الذي يقبل به قبل فرض الرسوم، وفي غالب الأحيان سيضطر صاحب العمل إلى زيادة راتبه بنفس نسبة الرسم الذي سيفرض على التحويل، وهو ما يعني زيادة تكاليف الخدمات والتأثير سلباً على قدرة القطاعات الاقتصادية على المنافسة، سواء في مواجهة الواردات أو في التصدير إلى الخارج. وقد أشرت في مقال نشرته سابقًا إلى أن قرب السلطنة من بلدان تتوافر فيها عمالة منخفضة الأجور وذات تكاليف استقدام منخفضة أيضاً للعمالة الماهرة وشبه الماهرة، هي ميزة تساعد على تخفيض تكاليف الإنتاج في السلطنة وتساعد المنتجات العمانية على المنافسة في الداخل والخارج، ويجب عدم اتخاذ أي إجراءات تحد من تلك الميزة. غير أنه لكي يستفيد الاقتصاد الوطني من مدخرات بعض العمال الأجانب فيمكن تقسيمهم إلى فئتين؛ فئة الأجور المتدنية ولا يمكنهم أن ينفقوا إلا اليسير في السوق المحلي وما تبقى من أجورهم يحولونه بالكامل إلى أهلهم أو من يعولونهم في الخارج. وفئة أخرى وهي قليلة وهم من ذوي المؤهلات العالية وتتراوح أجورهم بين المتوسطة والعالية. ومن المفيد تقديم ما يشجع هذه الفئة على إنفاق المزيد من دخولهم في السوق المحلي، مثل التسهيل عليهم لاستقدام عائلاتهم للإقامة معهم، وكذلك قيام البنوك وبورصة مسقط بتقديم بعض "الباقات" أو "الحزم" التي تشجعهم على إبقاء الجزء الأكبر من مدخراتهم داخل السلطنة.

أما تحويلات المستثمرين والشركات، فرغم أنه لا تتوافر لدينا معلومات عن حجمها، لكنها بالتأكيد أكبر من تحويلات العمالة؛ حيث إن هناك شركات أجنبية كثيرة وشركاء أجانب في شركات محلية يقومون بتحويل أرباحهم أو مستحقاتهم إلى الخارج. ولما كان الأمر يتعلق بالاستثمار ويخضع لمعايير المنفعة المتبادلة مع المستثمرين، فإنه يمكن اتخاذ بعض التدابير التي تحد من التحويلات إلى الخارج أو تشجع المستثمرين على إبقاء جزء من أرباحهم على الأقل بإعادة استثماره داخل البلاد. وإذا كان من الصعب إلزام المستثمرين عامة بقبول إعادة استثمار أرباحهم من خلال وضع ذلك شرطًا عامًا في قوانين الاستثمار، فإنه يمكن أن يتم من خلال ما يعرف بنظام أو برامج المبادلة offset programs التي توقع مع بعض الشركات المستثمرة أو الموردة لبعض المعدات، لاسيما الأسلحة ومعدات الدفاع، وكذلك في مقاولات البناء في بعض المشاريع الكبرى. وربما من المفيد في هذا الجانب إحياء دور "هيئة الشراكة من أجل التنمية" التي تأسست لهذا الغرض قبل بضع سنوات (لاحقا تحولت إلى الهيئة العامة للتخصيص والشراكة).

تعليق عبر الفيس بوك