الطير الأخضر

 

الطليعة الشحرية

الطير رسول الغرام، ساعي بريد الأحبة من قديم الأزمان، واليوم إن يُطلق اسم "طيرة" على أيِّ شخص، يعني أنَّه أهبل، وأهوج، ومُتشبع بالغباء ولا يرتفعُ عن القاع سوى شبرٍ واحد، وذلك بعد تعبئته "O₂" الذاتي، فتتضخم الأنا المجوفة والمُمتلئة بحشوات من التُرهات، لا ترقى إلى مستوى السخافة.

"الطيرة O₂" تتلوى بثوب السلام والسُعد الأخضر، والنوايا الصادقة، وتُخفي سكيناً من السكر خلف ظهرها، ولن تشعر بالغرسات تؤلمك، إلا بعد أن يقتات النملٌ من سُكرٍ نُثر فوق جراحك. سيتعثر أحدكم في حياته "بطيرة خضراء" رعناء، والمغبة إن تشبعت بالحيل والصفاقة، والطامة أن ينصب تركيزها واهتمامها وطاقتها عليك وحدك. فتصبح أنت محور الفلك والهدف السامي، الذي يستحق السعي بجهدٍ واقتدار لإزالته، وحتماً ستسعى "الطيرة" بشتى الطرق وتختصر كل الدروب وتُحيك المكائد، وتدرس بشغف كل التكتيكات العسكرية، وتخرج من الجعبة كل الحِيل المتاحة وغير المتاحة، ستحاول أن تثنيك عن عملك وتزعزع ثقتك وتشتت تركيزك. ستَصول وتجول، وتتسلل إلى المحيط المقرب لك، تُشوَّه، تُحقر، تُصغر كل ما تقوله وما لم تقله، وبالتأكيد ستقلدك وتفشل، ولن يثبط ذلك عزيمتها. فقد تحزم حقائبها وتسافر إذا استطاعت تحقيق الهدف وهو تمزيقك لإسقاطك، ولن تفتأ بين حين وآخر أن تتماهى وتتباهى بالأفضلية العرقية والعلمية كمن يحفر قبره بيده.

تضيع "الطيور" الحمقاء ما يقارب 80% أو أكثر من وقتها في اختلاق عداوة وهمية وتوحد التركيز على إسقاط وسحب الهدف إلى أسفل الدرك، جهدٌ مهدور ووقتٌ مسلوب. يعتبر" الطيرة O₂" ذاته حرساً للحياةٍ، حامياً لنبع الأصالة، وهي من السلالة المجيدة من بقايا مخلفات الجهاد المُقدس على أعتاب "عمورية" معقل الأشاوس.

كم في جراب الدنيا من "طيور O₂"، قد تمر أمامكم الكثير منها ويتواجد حولكم البعض منهم، ويسهل التعرف عليهم من تبخترهم، وتفند الفصيلة حسب هل هو "طيرة" أم "طيرة O₂"، وكلاهما يختلف عن الآخر وإن تشابها في الفصيلة. فالأول أحمق وأهوج وأضراره طفيفة، بينما الآخر صفيقٌ مدعٍ للثقافة، ومتشبع ذاتياً بنفسه، فلا مجال لوجود ما يخالف ذاته. يتسم "طيرة O₂" بالذكاء والخباثة والمُثابرة، لذا ستجده حاضراً إذا حضرت ويخبو إذا غبت، وسيقفز من كل جُحرٍ كالفأر المذعور الباحث عن قطعة جبن يضمن بها حياته، لذا سيُسارع في ذر الرماد عليك في مجلس ومحفل. سيُلاحقك في كل مكان ولا مكان، ستجده يبعثر العُلوم الحديثة من كيسهُ "الواتسابي" والمحولة من جروب "كرك وخبز كعك"، ويقسم بأغلظ الأيمان أنها خُلاصة اجتهادٍ حثيث وأبحاث مرموقة ونتائج مُحققة. سينتفخ رأسك من مُهاترات جدلية عقيمة، ليس لك سوى الانسحاب من العالم الرقمي بسلام وتجاهل "مُحششي الجهالة المكابرين" حتى لا تُدمن مُخدر الغباء المُعتَّق.

قد لا تُفلح إذا أغلقت المنافذ وأحكمت صدَّ المسالك، "فالطيرة" مُجتهدة وتستثمر مواهبها "الفزلكية" المدموغة بشهادة شبه جامعية، في البحث عن منفذ تتسلل منه لسحبك إلى أسفل وتحطيمك. تشد الرحال وتقطع آلاف الأميال، وتسافر إلى وجهات معلومة أو غير معلومة لتزيل الغمامة، عن كل من يعرفك وتكشف الحقيقة الكونية الكبرى، وتطرح أفكارها عنك بأنك شخصٌ لا يستحق مثل ما هي تستحق.  ستجدها رُبانا مُحترفا، تقطع البحار، تطرق كل باب وحِلَّةُ، وتتصل بكل جيرانك من آنست أو امتعضت من جيرته، وتملأ الدنيا بالصراخ " آآآخ، آآآيّ، ويا جاآآآآي ضربوني يا عمي ويا بآآآي"، عمار يا "أُم الدنيا" عمار، وأحسن من قال: "سبقني وبكى، وضربني واشتكى"، تمنيت أن تختزل سينما -الزمن الجميل- مشهداً سريالياً من مُخيلتي المُتخمة، "بالطيرة O₂".

إنَّ نجاح شخص ما، يصاحبه صراخٌ وعويل في مكان ما، وليس بالضرورة أن يصل صداه للناجح، ولكن عويلهم طربٌ أصيل، نقي وصافٍ وجميل، فلا أبهى من نواح "الطيرةO₂". الشفقة على هؤلاء واجبٌ إنساني مَحضَ وهم أهلٌ لها، لأنهم نموذجٌ لأشخاص اختصروا مباهج الحياة والعالم بك، فينشغلون بك، ويسعون بجد لسحقك ويشعلون الحرائق، لكي تخنق دخانها نجمك المنير. يُضحون بوقتهم وبجهدهم ويشغلون عقولهم بالحيل ورسم الخُطط ويتجاهلون ذواتهم ومواهبهم، فتنتحر الموهبة فوق صخرة الكبرياء والذات المتشبعة بالأنا. ضياعُ الجهد وإهدارُ الوقت في التفكير بتهميش وتشويه الغير، هي بذاتها أقصر الطرقٍ لوأد المواهب وتأطير الحياة بأيدي أصحابها لا بيد غيرهم، فحَقَّ عليهم المثل "بيدي لا بيد عمرو".