كي لا يتكرر المشهد

خلفان الطوقي

 

سجل التاريخ أنَّ السلطنة صارت بها أحداث تجمهر في شهر مايو 2021، وحدثت بها بعض الاضطرابات، ولا يُمكن أن تُمحى هذه الحادثة من التاريخ، ولولا لطف الله بنا، والتَّدخل المُبكر للحكيم سُلطان البلاد المُفدى- حفظه الله ورعاه- وإصداره لبعض القرارات الحكيمة، لاستمر الحدث المؤلم لمدة أطول من 4 أيام.

بالرغم من هذه الأحداث، إلا أن لها جوانب إيجابية، وأهم هذه الجوانب، أن على الحكومة أن تراجع نفسها، وتُعيد تقييم قراراتها وتشريعاتها وسياساتها وإجراءاتها، وتسأل نفسها: هل ما قامت به أفضل ما لديها؟ وهل يمكن لها أن تقوم بأفضل مما قامت به؟ ومن النواحي الإيجابية أيضاً إيصال رسالة بأنه لا أحد من المسؤولين الحكوميين مُحصن من النقد والتقييم والمُحاسبة.

وبالرغم من أنَّ الإجراءات المُعلنة استطاعت إخماد حرارة المتجمهرين، إلا أنها وإن كانت مؤثرة إيجابيا، فتأثيرها يبقى وقتيًا، ويمكن الاستفادة منها بشكل مستدام لكي تكون هذه الحزمة معيارا للمقارنة، وإصدار ما يشبهها من حزم تحفيز وقرارات إيجابية من وقت لآخر، ولكي لا تتكرر هذه المشاهد المحزنة، فعلى الحكومة أن تكون سريعة ومبتكرة وسباقة ومتطورة ومتجددة، وتعمل ليل نهار على مسارات عديدة في ذات الوقت، وأهم هذه المسارات:

المسار الاقتصادي: ففرص العمل لن تزيد ولن تتضاعف في المستقبل، إلا بتوسيع رقعة الاقتصاد، وإيجاد آليات وحوافز مساندة وداعمة للمستثمر المحلي- أولاً- وأن يتوسع في نشاطه التجاري، فبدلاً من أن نزيد من الرسوم المالية عليه سنة بعد سنة، ونفرض عليه قيودًا وتشريعات وغرامات، علينا أن نُسهّل عليه عمله، ونقنعه بأن يزيد من استثماره، ويوسع ويضاعف نشاطه التجاري، ومن ثم- ثانيا- نقنع المستثمر الخارجي بأن يأتي إلى السلطنة، ليجد أنَّ السلطنة أرضاً خصبة وديناميكية والواجهة الأنسب للاستثمار، وهذا يتطلب من الحكومة تحويل كل الشعارات الجذابة إلى تطبيقات ميدانية وخطوات عملية ملموسة.

المسار الاجتماعي: وذلك من خلال توسعة منظومة الحماية الاجتماعية، وتدارسها من جديد، وتكوين قاعدة بيانات رصينة ومتطورة تضم إحصائيات حديثة وموحدة، تستطيع فصل المستحق وغير المستحق للبرنامج الوطني للدعم، وتجديده بشكل سنوي، وتحديث معاييره حسب المتغيرات والمستجدات الميدانية.

المسار الإنتاجي: كلما زاد إنتاج الفرد أينما كان، ضمنت الدولة تقدمها ونموها وازدهارها، عليه فمثلما وضع جلالة السُّلطان- أيده الله- فريق حوكمة لتقييم عمل الوزراء والوكلاء، لابُد لكل وزير ووكيل أن يضع معايير أداء لكل موظف حكومي، ومعايير حوكمة تبين آليات المُكافأة والمحاسبة، فإن أردنا لعُمان أن تكون دولة متطورة ومنتجة، فلا يمكن أن يوضع المُجِّد والمعرقِل في سلة واحدة، ولا وصفة سحرية لاستدامة التنمية في أي بلد إلا بمزيدٍ من الإنتاجية المستندة على الأرقام والحقائق، ونموها سنة تلو الأخرى، مهما كانت الظروف والتحديات.

المسار التشاركي: انصهار كل الأجهزة الحكومية والمدنية والخاصة والمستقلة لأجل هدف نبيل وسامٍ، وهو تحقيق أفضل ما يُمكن لعُمان والمواطن وكل من يقيم على هذه الأرض الطيبة، وأن نُجري حوارًا وطنيًا مُنظمًا ونشطًا ومكثفًا ومستدامًا لا يتوقف، في السراء والضراء، في الحلوة والمرة، تفاديًا لأية قرارات ارتجالية مبنية على ردات فعل.

المسار التأهيلي: بالرغم من البرامج التأهيلية التي أعلنت عنها وزارة العمل، تبقى هناك أدوار مُكمِّلة من وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، والتفكير خارج الصندوق، والتقين بأن ليس من السهولة توطين الوظائف إلا بالتأهيل العلمي والمهني، وهذا الملف لا يُمكن إدارته بالعاطفة، وإنما بخطوات واقعية ميدانية وتنافسية، وليس عيبًا أن نفكر مُبكرًا، ولو كان ذلك من خلال خطة طويلة المدى في جعل المواطن العُماني منتجًا عالميًا منافسًا بالوظائف خليجيًا وإقليميًا وحتى عالميًا من خلال امتلاكه قدرات ومهارات المستقبل؛ مهارات القرن الحادي والعشرين.

المسار التغييري (إدارة التغيير): وهو سعي الحكومة لأن تغير سلوكها وأنماط معيشة مواطنيها من الأنظمة الريعية إلى الأنظمة الإنتاجية، وهذا واضح من خلال عدة قرارات في العام الماضي وهذا العام، بالرغم من المقاومة المجتمعية الشديدة كما هو متوقع. ولذا على الحكومة أن تتبنى سياسات وآليات إدارة التغيير العلمية المدروسة، في مراحلها القصيرة والمتوسطة والطويلة، ولا يمكنها أن تطبق كل الحزم لكل الناس وفي وقت واحد، ولا يمكن أن تجني ثمارها في يوم وليلة، فلكل سياسة يراد تطبيقها أهداف ونتائج وتحديات وفئة مستهدفة ومدة زمنية وتوقيت مناسب لتطبيقها، وعلى كل مسؤول حكومي أن يستوعب أهمية تطبيق إدارة التغيير داخل محيطه بين موظفيه (داخل المنشأة الحكومية) وخارجياً (محيطه الذي يتعامل معه).

المسار التكاملي: وهو أن لا تكون المسؤولية فردية وملقاة على وزارة بعينها فقط؛ إذ لابُد أن تكون المسؤولية جماعية وتضامنية أمام عاهل البلاد، فلا نجاح أو إخفاق لجهة حكومية دون غيرها، فإما نجاح جماعي أو إخفاق حكومي جماعي.

الخلاصة.. المشاهد الأخيرة كانت محزنة لكل منِّا، وثمَّة هاجس من أن تتكرر، لكن لتفادي ذلك لابُد من المصارحة وأن تؤمن الحكومة بأنَّ ما قامت به- وإن كانت تراه مقبولا- يمكن تطويره ومضاعفته بقراءة المشهد بواقعية، وبالتفكير الابتكاري والحلول الاستباقية والإنتاجية والعمل التكاملي بشكل عصري ونوعي ودينامكي.