عبيدلي العبيدلي
جاءت محصلة ذلك التصحيح الإيجابي في صالح الانتفاضة الفلسطينية، وكانت واضحة المعالم في المعارك المتفرقة والمتواصلة مع قوات العدو الصهيوني، وردود فعل الثورة الفلسطينية عليها، دون أن يولِّد ذلك لدى الجميع- ممن كان في أتون تلك الانتفاضة أو المتعاطف معها- أوهامًا بانقلاب موازين القوى بين طرفي الصراع بشكل مُطلق وأبدي لصالح الثورة، التي ما تزال في مُستهل ذلك التحول في موازين القوى.
غير أن ما صححته الانتفاضة من مفهوم راسخ في أذهان صناع القرار في دوائر السلطات العربية- ومن بينهم نسبة لا يُستهان بها من القيادات الفلسطينية- أمر لا ينبغي التقليل من شأنه، ولا الاستهانة بتأثيراته الإيجابية على المدى المتوسط، دعْ عنك البعيد في موازين قوى الصراع الفلسطيني- الصهيوني. لقد حركت الحقائق التي ولدتها مكاسب الانتفاضة على أرض ذلك الصراع عقارب ساعة تصحيح موازين القوى بين طرفي ذلك الصراع ولصالح الزمن الفلسطيني.
ثالث تلك الحقائق وفي نطاق تناولنا للاختلال في موازين القوى- ولو بشكل مؤقت ونسبي لصالح نضالات الشعب الفلسطيني- تجعلنا نتوقف عند واقع الحركة الصهيونية، وطبيعتها الراهنة. فكما يبدو أن تلك المؤسسة فقدت- بفضل عوامل تاريخية متراكمة وسياسية واقتصادية راهنة- الكثير من عناصر قوتها. ومن ثم تحضُرُنا هنا المقولة الصينية المتداولة في السبعينات من القرن الماضي، والتي كانت تصف الإمبريالية الرأسمالية، وطليعتها الأمريكية، مقارنة بنظيرتها السوفياتية، بأنها "نمر من ورق".
هذا لا ينطبق كليًا، وبشكل كامل على المؤسسة الصهيونية نظرًا للاختلاف الكمي والنوعي؛ بل وحتى الحضاري بين طبيعة ومكونات التنافس الأمريكي- الصيني من جهة، والصراع الفلسطيني- الصهيوني من جهة أخرى.
لم يكن هدف استعارة ذلك التوصيف الصيني للولايات المتحدة إسقاط هذه الأخيرة من قائمة أعداء بكين حينها، لكنها هدفت إلى الإشارة إلى إزاحة واشنطن من رأس قائمة أسماء مصفوفة التناقض الرئيس بين بكين وواشنطن إلى جداول التناقض الثانوي. ومن ثم فهو يقر باستمرار فعل عناصر الصراع، لكن الاختلاف يظهر بوضوح عند تحديد موقعه في سلم الأولويات. يمد هذا التوصيف قيادة الانتفاضة الفلسطينية الشابة، بتلك المساحة المطلوبة من أجل تحديد مساحات التحالفات التي باتت مطالبة بنسجها، وهي تخوض غمار معاركها التي لن تتوقف مع العدو الصهيوني. المقارنة هنا تمس التحالفات المطلوب نسجها، ولا تنفي استمرار عناصر الصراع الذي لن يفقد طبيعته الصدامية العنيفة، ولن يُلغي احتياجاته للمزيد من التضحيات، لكنها المحسوبة بدقة متناهية. لكنه بالقدر ذاته، يدعو أيضًا إلى إعادة هيكلة قائمة أشكال الصراع كي يتم في ضوء ذلك تحديد خارطة التحالفات المُقبلة المُلائمة لها التي سترسمها الانتفاضة الفلسطينية، وهي تخوض معارك ذلك الصراع الواحدة تلو الأخرى، وفق جدول زمني واضح المعالم والأولويات.
رابع تلك الحقائق الموهومة التي تهاوت أمام ضربات "انتفاضة التصحيح الفلسطينية"، هي تلك الهالة التي سورت الآلة العسكرية الصهيونية بشقيها المسلح والأمني، التي أصبحت في نظر الكثيرين من العرب، بمن فيهم أولئك المسيرين لدوائر صنع القرار العربي، مؤسسات عملاقة لا يمكن إلحاق أي مستوى من مستوى الهزائم بها، بما فيها تلك المُقيدة التأثير، والمحدودة الإطار.
وبفضل هذه النظرة الدونية للذات العربية، تعملق الجيش الإسرائيلي، وتضخمت نجاحات جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد"، وطمست مظاهر الضعف، وربما الوهن التي يُعاني منها كلاهما.
وجاءت وقائع انتفاضة التصحيح كي تكشف ثغرات ذلك الجيش، من خلال الفجوات التي أحدثتها صواريخ انتفاضات التصحيح الفلسطينية في "القبة الحديدية" التي لا يكف العدو الصهيوني عن التباهي بتفوقها في صد غارات الثورة الجوية. الأمر ذاته انطبق على الموساد الذي فشلت أدوات رصده في توقع موعد انفجار الانتفاضة، وعجز عن تقدير سرعة انتشارها، وفشل في حساب قدرتها على الصمود والاستمرار. وأخفق في رؤية ألسنة نيرانها كي تصل إلى مناطق 1948.
خامس تلك الحقائق التصحيحية، تقزيم حجم التعاطف العالمي الذي كان تتباهى به المؤسسة الإعلامية الصهيونية، والتي هي الأخرى نعمت، وما تزال بالتضخيم العربي الرسمي وغير الرسمي. لقد نجح العديد من محطات البث التلفزيوني العربي في توفير التغطية الإعلامية التي كانت الانتفاضة المباركة في أمس الحاجة لها. هذا من جانب، ومن جانب آخر اندلعت حرب أخرى على منصات وسائل التواصل الاجتماعي بين مؤيد للقضية الفلسطينية ومعاد لها، وكانت الغلبة للطرف الأول.
وكما تهاوت صورة مؤسسات العدو العسكرية ونظيرتها الأمنية من تلك المكانة المرتفعة التي كانت تحتلها، كذلك تقوضت مؤسساته الإعلامية وفُقدت نسبة عالية من رصانتها المفتعلة، التي هشمت صورتها سواعد أبطال الانتفاضة.
المُفرح هنا هو تنامي طوفان موجة تعاطف الجيل الشاب العربي، وبقرار ذاتي، ودون إيعاز من أية جهة مع الانتفاضة، وتسخير مقدراته التقنية في توجيه ضربة للإعلام الصهيوني. وكانت النتيجة الحتمية تعاطف دولي غير مسبوق جسدته المسيرات التي اجتاحت نسبة لا باس بها من عواصم ومدن العالم شاركت فيها جاليات غير عربية، وليست مسلمة أيضًا. وتتكامل مع هذه الحقيقة واحدة أخرى، وهي أن من قام بهذه الحملة الإعلامية هم جيل الشباب الذي توهم الجميع أنه أسقط القضية الفلسطينية من ذاكرته التاريخية.
سادس تلك الحقائق، هو الحيز الرحب، والآخذ في الاتساع الذي باتت تأخذه مساهمات عرب 1948 في الحراك الفلسطيني؛ وهو تحول لا ينبغي الاستهانة به أو التقليل من شأنه. فبين أيدي هؤلاء العرب أسلحة لا يمكن لسواهم من الفلسطينيين من المقيمين على أرض فلسطين أن يقتنوها.
الأول من تلك الأسلحة هي الجنسية الإسرائيلية، الأمر الذي يضع صعوبات قانونية ودولية في وجه المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية عند محاول تلفيق التهم لهم، أو الانتقام منهم. وتشمل تلك الصعوبات عمليات التهجير والتفسير، والعبث بالممتلكات.
والثاني منها أن تحملهم انتقام العدو الصهيوني أهلهم لمعرفة آليات صنع القرار في المؤسسة الصهيونية، ومن ثم قدرتهم على فتح ثغرات قانونية وتشريعية في جدران تلك المؤسسة، وتسخيرها لصالح القضية الفلسطينية. وبوسع هؤلاء متى ما أدركت الثورة الفلسطينية القيمة النضالية التي بين أيديهم أن يشكلوا رأس الحربة الموجه نحو جسد المؤسسة الصهيونية الحاكمة.
أما الثالث وهو لا يقل أهمية عما سبقاه، وهو أن وسع الثورة تحويلهم إلى سفراء يحملون هموم الثورة والصعاب التي تواجهها، كي تنال القضية الفلسطينية نصيبها العادل من الدعم الذي تستحقه، والتعاطف العالمي، بل وحتى العربي والإسلامي والمسيحي، الذي تحتاجه وتستحقه في آنٍ.