د. سليمان المحذوري
رغم معرفتي بصديقي الغزّاوي منذ عام 2011، إلا أنّ هذه الرسالة هي الأولى منِّي له، وأظن أنّها جاءت في وقتها تمامًا، وتعود صداقتنا هذه إلى فترة الدراسات العُليا في ماليزيا عندما تزاملنا دراسيًا ولمدة أربع سنوات؛ بل وتقاسمنا السكن ذاته.
عرفته شابًا فلسطينيًا مُهذبًا طموحًا خرج من قطاع غزة المُحاصر بصعوبة بالغة، كما هو ديدن أهل غزة الكرام من أجل الدراسة، واكتساب العلم والمعرفة، والعودة مجددًا إلى أهله وذويه. أذكر أنني في يوم ما حدّثته عن الاستقرار في ماليزيا كما هي عادة كثير من المُهاجرين وخاصّة العرب ممن ينشدون العيش الكريم خارج أوطانهم التي مزَّقتها الحروب؛ بيد أنّه رفض رفضًا قاطعًا، وأصرّ أن يعود إلى مسقط رأسه غزة. حينها لم أدرك سر تمسكه بالعودة إلى موطنه.
كان يُحدثني كثيرًا عن الأوضاع الصعبة التي يعيشها الغزاويون منذ عام 2006 جراء الحصار الذي فرضه الكيان الصهيوني الغاشم على قطعة أرض صغيرة يعيش فيها عدد كبير من السكان تُسمى قطاع غزَّة. وبالتالي انتشار البطالة والفقر بين سكان غزة وما إلى ذلك من أمور. ومع ذلك، ومع استمرار الغطرسة الإسرائيلية على القطاع بين الفينة والأخرى لم يزدهم ذلك إلا صبرًا وأنفة وكبرياءً وكرهًا للعدو الغاصب لأرضهم فلسطين منذ عام 1948، وتصميمهم على تحرير ديارهم ومُقدساتهم كما هي عادة الشعوب الحُرّة الشريفة التي لا تقبل الضيم والاحتلال مهما طال ولنا في التاريخ عبرة.
ومع تجدد العدوان الصهيوني الأخير الذي استمر نحو 11 يومًا كنت على تواصل مع صديقي الغزاوي للاطمئنان على أحوالهم، فكان ينقل لي الأخبار المأساوية بسبب هذا العدوان السافر على المدنيين العُزّل، وتدمير المنازل وتشريد العائلات، وقتل النساء والأطفال، ولله الأمر من قبل ومن بعد. كان يبكي بحرقة، ويقول نحن عنوان للصمود وتحد للغطرسة الصهيونية، وهذا الأمر ليس بجديد على غزة وأهلها، ولكن ما يحزُّ في القلب خذلان الحكومات العربية وليس الشعوب المغلوب على أمرها.
صديقي العزيز: لقد أثبتت الشعوب أنّها رقم واحد في هذه المعادلة، وخير برهان على ذلك موقف الشعوب الداعم للحق الفلسطيني خلال الأحداث الأخيرة التي انتصرت فيها غزة نصرًا مؤزرًا سُطر بدماء الشهداء الزكية. فالأنظمة الحاكمة إلى زوال مهما طال الزمان، وإن تحقق الوعي الكافي لدى الشعوب بأهمية القضية الفلسطينية قوميًا وإسلاميًا وإنسانيًا هنا ستكون البداية وهذا ما حصل خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي رغم انحياز بعضها إلى الطرف الآخر، والكيل بمكيالين كما هي عادة المجتمع الدولي منذ بروز القضية الفلسطينية إلى السطح رغم الادعاءات بمناصرة حقوق الشعوب الضعيفة، والتذرع بمسألة حقوق الإنسان.
دعني أحدثك صديقي العزيز تاريخيًا وأنت أدرى مني بتاريخ فلسطين، ولعل البداية مع وعد بلفور المشؤوم عام 1917 بمنح من لا يملك (بريطانيا) لمن لا يستحق (الصهاينة) أرض فلسطين العربية بدواعٍ كاذبة، لا تستند على أي أساس شرعي، هنا بدأت الحكاية التي لم تنته فصولها بعد. ومنذ نكبة مايو 1948 بإعلان قيام الكيان الصهيوني العنصري، ونكسة حرب 1967؛ لم تستطع الجيوش العربية تحرير شبر من فلسطين لأسباب كثيرة، لا داعي للخوض في تفاصيلها في هذا المقام؛ بل إنّ الحرب الأخيرة أدت إلى نتائج كارثية باحتلال مزيد من الأراضي العربية في فلسطين ومصر وسوريا. وإزاء ذلك بات التعويل على أصحاب الحق فقط وهم الفلسطينيون في انتزاع حقهم، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ولا يضيع حق وراءه مطالب، وهذا ما تفعله غزة تمامًا وهي في الطريق الصحيح بإذن الله.
قرأت مؤخرًا مقولة على جانب كبير من الأهمية تفسر لنا بجلاء التوجه الحقيقي للصهاينة يقول جوزيف ويتز (Josef Weitz) مدير الوكالة اليهودية عام 1940: "يجب أن نُعلن بوضوح أنه ليس هناك مكان في هذا البلد لشعبين.. إذا ما استمر العرب بيننا لن يكون بمقدورنا تحقيق هدفنا بالتوصل إلى شعب مُستقل في هذه الأرض الصغيرة، فالحل الأوحد يكمن في أن تكون أرضًا لإسرائيل بدون العرب.. وليس هناك خيار آخر إلا بنقل العرب إلى البلدان المجاورة"، ولا أظن أنَّ هذه المقولة تحتاج إلى إيضاح وتفسير.
ومن خلال عبر التاريخ يبدو جليًا من الصعوبة بمكان الشروع في مقاومة المحتل دون الاتكاء على الوحدة الوطنية. وما يحدث حاليًا من انقسام الفلسطينيين ما بين فتح في الضفة الغربية، وحماس في غزة، واختلاف التوجهات والرؤى السياسية بين الفريقين لا يخدم القضية الفلسطينية بتاتًا، لا من قريب ولا من بعيد. وفي هذا المقام من الأمثلة التي أحفظها جيدًا أنَّ السواحل العُمانية وقعت تحت الاحتلال البرتغالي عام 1507م، ولم تستطع التحرر من القبضة البرتغالية في ظل التشرذم بين العُمانيين، ووجود حكام مُستقلين في مناطق عُمانية عديدة. ولكن بعد نحو قرن ونصف القرن من الزمان استطاع العُمانيون طرد الغزاة من أرضهم، وكان العامل الرئيسي في هذا الأمر الوحدة الوطنية أكرر الوحدة الوطنية، وبعدها تأتي العوامل الأخرى الممكنة للنصر.
أعلم يقينًا أنه يحزّ في نفسك موقف الصهاينة العرب مما يجري في فلسطين، وترديد ذات الروايات الصهيونية بأنَّ المقاومة هي "حركة إرهابية"، وغيرها من الترّهات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ويا للعار، ويا للعجب في وصف من يُقاوم المحتل بـ"الإرهابي"؛ هزلت وربُ الكعبة!!
ما ضر شمس الضحى في الأفق ساطعة // أن لا يرى نورها من ليس ذا بصر
فلو أكرمتنا هذه الشرذمة المنبطحة بسكوتها لكان أفضل، ومع ذلك فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم لم يسلم من فئة المنافقين والمحبطين والمرجفين؛ فهؤلاء تنطبق عليهم الآية الكريمة "لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ".
ختامًا.. ما من شك أنّ النصر الذي حققته المُقاومة وصلت أصداؤه إلى مختلف دول العالم شرقًا وغربًا، وباتت المقاومة ورقة مُهمة في أيدي الفلسطينيين يمكن استثمارها مع ضرورة الاستمرار في التعريف بالقضية الفلسطينية العادلة بمختلف اللغات التي تفهمها الشعوب، ومن الأهمية بمكان تبني مشروع وطني استراتيجي لتحرير الأرض وطرد الغزاة من حيث أتوا؛ لأنه لا يُمكن التعويل على العواطف التي تثور حينًا، وتنطفئ أحيانًا كثيرة، عاشت فلسطين حرة أبية.