الزير سالم.. والعدالة الخوارزمية

 

خالد بن الصافي الحريبي

 

يقول الزير أبو ليلى المُهلهل: "وقلب الزير قاسي ما يلينا وإذا لان الحديد ما لان قلبي وقلبي من الحديد القاسيينا".

ندينُ نحن- بل والإنسانية جمعاء- لصاحب هذه الأبيات المشهورة، وذلك كونه أوَّل من نسج وهَلهَل القصائد الطويلة، إذ إنِّه كان أول من دعا النَّاس إلى تدوين الشعر والمُعلّقات، فأصبح الشعر منذ ذاك الحين ديوان العرب. ويحضرني اليوم الإرث الخالد لهذا الفارس الشَّاعر الذي عاش بين القرنين الخامس والسادس الميلادي قبل الإسلام ونحن نشهد تزايد أهمية الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي.

فإرث "المُهَلهل" عُدي بن ربيعة بن الحارث الجشمي التغلبي الملقب بـ"الزير سالم"، ثري للغاية، ليس فقط لأنَّه أول من كُني باسم ابنته في الجاهلية؛ فهو أبو ليلى أو لأنه خال أحد أشهر شعراء العرب وهو امرؤ القيس، أو لأنه جدّ أعزهم عمرو بن كلثوم؛ بل لأني أعتبره أوَّل من قام بنشر استخدام اللغة العربية في التشفير "Coding". وقد ورد في قصة وفاته، أنَّه بعد أن بلغ من الكِبر عتيًّا، وصعُب على خادميه مُواصلة خدمته، انفردا به وعزما على اغتياله، فأوصاهما بأن يُبّلغا ولدي أخته عنه: (من مُبلغ الحيّين أنَّ مهلهلًا لله دركما ودر أبيكما) وبعد أن جاءا أهله بدمٍ كذبٍ أخبرهما بالبيت، فما كان من ابنة أخيه التي علّمها البلاغة إلا أن فكّت شفرة البيت وجريمة اغتياله إذ إنَّ تكملته تقول:

من مبلغ الحيّين أن مُهلهلا // أضحى قتيلاً في الفلاة مجندلا

لله دركما ودر أبيكما // لا يبرح العبدان حتى يُقتلا

وقصة المُهَلهل لا تُبيّن لنا فقط نعمة قدرة العقل البشري على الوصول لحل المشاكل ورصد التوقعات والنتائج بناءً على مُعطيات وبيانات تاريخية سابقة، وهذه القدرة هي اليوم أحد أسس الذكاء الاصطناعي.

إنَّ تعلّم الآلة والخوازميات، والتعّرف على الخوارزميات التي تُنسب للعالم أبو عبدالله محمد بن موسى الخوارزمي، أنها المعادلات المنطقية الرياضية أو الحسابية التي تهدف لحل مشكلة ما، وتقودنا إلى نعمة العقل البشري، وقدرته على الوصول لحل مشاكل تيّسر لنا بناء مستقبلٍ تحقق فيه مجتمعاتنا ما يُسمى اليوم بالعدالة الخوارزمية "Algorithmic Justice". فما المقصود بالعدالة الخوارزمية؟ ولماذا هي مُهمةٌ لكل فردٍّ منِّا اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى؟

الأقصى الشريف وخوارزميات القَمع

لا يخفى على أحد نِعمة الإنترنت، وأنها خدمة عصرية أساسية تيّسر لنا حياتنا وتواصلنا وخدماتنا ومعيشتنا، ولكنها في نفس الوقت تحوّل كل لحظة نقضيها على الإنترنت لسلعة تبيعها شركات تكنولوجيا عملاقة قيمتها بالمليارات؛ لإغرائنا للتوجه لسلعةٍ أو فكرةٍ مُحددة تسوّقها شركات أخرى، فيما يسمى باقتصاد الانتباه "Attention Economy". وتعرف أهم هذه الشركات بـ"فنجا FANGA" اختصارًا للحروف الإنجليزية الأولى من كلمات "فيسبوك وآبل ونيتفليكس وجوجل وآمازون"، ويُضاف لها شركات مايكروسوفت وتويتر وتيك توك، وشركات أخرى. ومقر 6 من أهم الشركات التي تملك بياناتنا في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما مقر 3 شركات أخرى في الصين. وما حصل خلال هذا الشهر أنَّه تبيّن لمستخدمي الإنترنت بالدليل القاطع أن مسؤولين في هذه الشركات يستخدمون التكنولوجيا بصورة غير محايدة وغير عادلة، وأدخلوا في هذه برمجة شفرات وخوارزميات تحقّق أهدافهم المُغرضة لتترصّد وتتّبع وتستهدف كلمات عربيّة تصّنف مستخدميها دون معايير عادلة أو شفافة على أنهم يروجون لمحتوى خطير وعنيف، بما يُعرف بخوارزميات القمع. وتتضمن هذه الكلمات، على سبيل المثال لا الحصر: الأقصى، القدس الشريف، مُقاومة. ناهيك عن أنها استولت على كلمات كالجهاد وحولتها لكلمات "إرهابية". ومن نافلة القول إنه من لا يعد نفسه ومجتمعه بما استطاع من قوة عصرية رقمية، فإنِّه سيستمر في كونه ضحيةً؛ كالآلاف من المتحدثين باللغة العربية الذين صنّفتهم خوارزميات شركات الإنترنت العملاقة بأن كتاباتهم خطيرة وهم لا يعلمون، ودون أن توّضِح لهم معايير هذه الأحكام أو طريقة استئنافها إن وجدت أو من له الحق في استخدام بياناتهم.

العدالة الخوارزمية

من المُسّلمات أنه دون عدالة يتحوّل عالمنا لغابةٍ، إذا سرق فيها الشريف تركوه، وإذا دافع فيها الضعيف عن حقه أقاموا عليه الحد! ولنا في سعي الفلسطينيين للعيش بكرامة خير مثال. لذا فإنِّه من الحِكمة أن نسعى اليوم لأن نُعيد النظر في أن نكون مستهلكين لتكنولوجيا تأخذ منّا أضعاف ما تُعطينا وتصّنفنا تصنيفات خطيرة. والأهم أن نسعى لتبني نظام عدالة خوارزمية أهدافه تتوافق مع مبادئنا، وعملياته وسير إجراءاته واضحة، ومعاييره شفافة، ويشترط موافقتنا الصريحة على قراراته التي تُؤثر على تصنيفنا بأي صورة كانت. وعلى الرغم من أنَّ بعض الدول- ومنها دول الاتحاد الأوروبي- تبنت النظام العام لحماية البيانات "GDPR" لتحقيق العدالة الخوارزمية لمواطنيها فقط، إلا أنَّه في ظل التطورات الأخيرة يتضح أنه من حق لغة الضاد علينا أن نطوّر عدالة خوارزمية تُسهم في تحقيق العيش الكريم لنا بناء على مبدئنا العقائدي "لا ضرر ولا ضرار".

ومن المُبشر بالخير أنَّ الحاجة أمُّ الاختراع، وأن شبابنا وشاباتنا أحفاد الخليل بن أحمد الفراهيدي وأبي الأسود الدُؤلي ابتكروا تطبيقات تحيّد خوارزميات القمع. وهذه التطبيقات تُعيد اللغة العربية إلى أحد صورها الأولى دون نقاط بصورة تتفوق على قدرات الخوارزميات في تصنيف الكتابات العربية بأنها خطيرة أو نحو ذلك.

من الجاهلية إلى العدالة

وعلى إعجابنا البالغ بإرث المُهَلِهل أن لا يتوقف عند إطلاقه لإمكانيات اللسان العربي وتوثيقه بياناته كديوانٍ للعرب؛ بل أن يمتد للتأمل في أهم عبرةٍ من هذا الديوان، وهي أن سعة الصدر أكثر حِكمة من السقوط في بئر أوهام القوة والاختلافات التي لا تنتهي. فنحن اليوم لسنا في عصر الجاهلية التي لم يستوعب المُهَلِهل فيها تبعات إيقاد نار حرب البسوس لـ40 عاماً أنها أتت من مستصغر شرر لخلافٍ على مقتل ناقة أو أيِّ اختلافٍ ما أنزل الله به من سُلطان.

بل إننا أصبحنا اليوم نحل اختلافاتنا ونعتبرها مسألة مصيرية، إن لم نقرر فيها مصيرنا بأيدينا فإننا سنُعامل كضحيةٍ من قبل شركات وراؤها أمم تستغل الخوارزميات لتصنيفها حسب أهدافها الربحية والنفعية فقط. وحريٌ بنا أن نسعى لحل هذه الاختلافات واضعين بعين الاعتبار الآية الكريمة "وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (النور: 22).

في حاضرنا أصبح الخير، كل الخير، في التأمل في معين هذه النِعمة المُتجددة التي لا تنضب وهي لغتنا العربية، وأن نتفق على كلمة سواء مع إخوتنا وأخواتنا المتحدثين بلسان الضاد لتعريف معنى العدالة وكيف يُمكن لنا أن نفك شفرة أسباب التقدم العصري والازدهار بالاستفادة منها؟