"البراجماتيون في القرن الأول الهجري"

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"فعلى المستوى التاريخي- قديمه وحديثه- هناك دون شك نصوص وروايات عبَّرت عن مرحلة زمنية مُعينة، لكن ولأسباب خاصة تم استخدام وتوسيع وشد هذه النصوص والروايات إلى خلفيات تمازج بين أصيل نابع من خصوصيتها الدينية والاجتماعية والسياسية، وبين دخيل أملته عليها ظروف الواقع، والرغبة في تجاوز حاضرها ونقده". د.عبدالهادي ناصر العجمي.

-----------

 

قبل فترة قرأتُ كتاب "خارج نطاق التقديس.. البراجماتيون في القرن الأول الهجري" لمؤلفه د. عبدالهادي ناصر العجمي (1) صادر من دار رؤية للنشر بالقاهرة، والكتاب كما يبدو من عنوانه يتحدث عن مظاهر في التاريخ الإسلامي المُبكر.

واضح من عنوانه الطويل أنَّه يتطرق لمسائل فيها من النقد والاختلاف والاتفاق، وواضح أيضاً من العنوان أنَّه يدخل بمناطق تاريخية شائكة أقرب إلى حقول الألغام، من خلال تساؤلات جريئة يطرحها ويناقشها المؤلف، ويعرضها بإسهاب في هذا الكتاب المُثير للجدل، فهو يتحدث عن نقد بعض الروايات ذات الصلة بالعهد الزمني المقصود التي اتخذت ألوانًا عدة، خاصة أنَّه أطلق عليها من بعض المؤرخين اسم الأخبار ودُعي من يرويها بالإخباريّ، كما أطلقوا على من يروي الحديث اسم المُحدِّث؛ حيث تمَّ التفريق بين المؤرخ الذي كان إخبارياً والمحدث المختص بالحديث، وكذلك الحال في علم الأنساب "الجينالوجيا" الذي اعتُبر المتخصص به "نسّابة".

من المُلاحظات طول عنوان الكتاب، الذي يبين بأنَّه أصلاً دراسة جرى طباعتها في كتاب، وبعيداً عن القيمة العلمية للدراسة، أرى أنه لو تمَّ التَّعامل بشكل مُغاير مع عنوان الكتاب لاختصاره لكان أنسب، فهناك فارق بين أن تكتب بحثاً علمياً يحتمل عنواناً من عشر كلمات على أن تكتب عنوانا لكتاب، بالطبع ليس استنقاصا إنما ملاحظة موضوعية، لذا أن تكتب عنواناً لبحث علمي وتنشره في مجلة محكمة غير أن تنشره في كتاب يُطرح للعامة، خاصة فيما يتعلق بالعنوان، وهو تقريباً قد يكون الدافع الأهم لاقتنائه عند الكثير من القراء. ولفت نظري مفردة: البراجماتيون، فقد تعودنا على "البراغماتيون" (بالغين بدلاً عن الجيم)، وفي تفضيل حرف الغين عن الجيم في المفردة، ولا شك أنه لا ضرر في ذلك، لكنه مظهر لفت نظري، وبذلك أتذكر أحد أساتذة اللغة قال ذات مرة إنَّ ترجمة المفردة الأجنبية لا مشكلة في الاجتهاد حولها، أن تكتب براجماتيون أو براغماتيون، فالمعنى وصل.

الكتاب من خمسة فصول، كل فصل يحمل مباحث وموضوعاً ودخولاً إلى مناطق يخشى الكثيرون الاقتراب حتى منها، هنا أعني البحث العلمي الذي يحمل النقد والتصويب والتعليق والتوقف والتمعن وتفسير وتأويل ذات الحدث وهو ما يحسب للمؤلف، وهنا يدخل القارئ الفترات التاريخية الأهم في تاريخ الإسلام من بداية إلى نهاية القرن الأول الهجري، من بداية دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصولاً لعهود الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ومن ثمَّ الدخول بجرأة إلى معالم الأحداث الفاصلة فيما قبل "الفتنة الكبرى" وما وراءها، من أحداث خاصة ماجرى في معركة الجمل وصفين والتحكيم وزخم الأحداث المتوالية والتي ما تزال تشغل الباحثين وتُثير الجدل المستمر حتى اللحظة.

في صفحة 213 من الكتاب، يكتب المؤلف: الاستمرار في إنتاج المثالية التقليدية، خاصة في تاريخ القرن الأول الهجري سيقود للمزيد من الضرر والضبابية.

وأتفق مع المؤلف لأنَّ المثاليات المزدحمة ورصد المعلومة التاريخية دونما تدقيق أو تحليل لماهيتها، هو فقط تأليف قصص مثالية وقد تحمل- في رأيي الشخصي- آيديولوجيا مُعينة تخص المؤرخ الراصد لحيثيات الحدث، لذلك من المُهم التعامل بحذر مع نصوص تاريخية أثارت جدلاً واسعاً لدرجة أنه عندما تقرأ عدة كتب عن الحدث نفسه تجد في كل كتاب تفسير منفصل عن الكتاب الآخر، بالطبع ليس تشكيكاً بنزاهة وأمانة المؤرخين إنما علينا التعامل الموضوعي والتفريق في الحدث نفسه بين الخبر والتحليل، وشتان مابينهما من معنى، ففي الخبر ليس مقبولاً الاختلاف لأنه خبر/ حدث حاصل، لذلك أي تحوير أو تجاهل أو زيادة قد يجدنا في حالة تزوير وتزييف، أما في التحليل فيبقى الرأي والرأي الآخر وكلا لديه مالديه من الحجج لإثبات صحة أو خطأ عناصر الحدث سواء مادية أو اعتبارية، لذا لاحظت المؤلف يتعامل بحذر وإن بمرونة في المرور بين خاصيات العلوم النقلية والعلوم العقلية، يأخذ ما يضيف، ويتجاوز ما يشتت النص وويبهم المعنى.

وبناءً على السياق السابق وتعزيزا للفهم، قرأت للدكتور زهير الخويلدي (2) ذات مرة: لقد شهد القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ثورة في الوثائق ارتكزت على قاعدتين منهجيتين:

  • الأولى: نقد المصادر وتقصي الأصول والتفتيش عن الأنساب.
  • الثانية: البحث عن التفسير بواسطة ما يُحقق للتاريخ طموحه في أن يكون علمًا.

نرجع للكتاب القيم إذ يبدأ الفصل الأول الذي كان عن شبث بن ربعي التميمي، ومن عناوين الفصل: (بعد صفين) تمرد بطعم الانتصار!، والفصل الثاني عن أبي الأعور السلمي، ومن العناوين: شخصية أصيلة أم استقراء مُفتعل، والفصل الثالث عن عبدالله بن خازم، ومن عناوينه: الفتنة وابن خازم. ومضات أخلاقية، والفصل للرابع عن المهلب بن أبي صفرة، ومن العناوين: في ضيافة الزبيريين. سيدا لأهل العراق، وفي الفصل الخامس: الاحتماء بالتاريخ، ومن العناوين: القرن الأول بين الانتصار اللديني والبعد السياسي، وأخيرا المصادر والمراجع التي ناهز عددها اثنين وثمانين مابين مصدر ومرجع.

الكتاب فيه إعادة قراءة لعدد من الأحداث من منظور تحليلي فلسفي يضع المجهر على الحدث/ الشخصية المتناولة ذات الشأن، ويسهب في شرح الفكر النقدي حولها بما لا يخرج من دائرة الخبر الذي لايتعرَّض للشك، إنما يتم وضعه في إطار نقدي يفند روايات وأفكار تتعلق به وترتبط بحيثياته وآلية ضبطه تاريخياً، وهو يطرح فكراً نادرًا ما تطرق إليه السابقون، من خلال نزع القدسية عن أحداث وتفكيك تاريخها وفقاً لسياق موضوعي يُضيف ويُؤدي لفهم أعمق، ونظرة بعيدة المدى، وبرأيي المُتواضع الكتاب يحتاج أكثر من قراءة، وتعليق وتفنيد، نظرا للزوايا الحادة التي تموضعت في الصفحات، والآراء المُثيرة للجدل لما لم يتحرك من الفكر التقليدي، وفيه تمازج بين الفلسفة والتاريخ والسياسة، ويستحق القراءة المتأنية وبصراحة لا يكفيه مقال.

نحن بحاجة لكتّاب يدخلون مثل هذه الفترات الحساسة من التاريخ، ويمهدون الطرق الوعرة في هذه الفترات خروجاً عن التقديس لشخصيات لا مشكلة عقدية في التعرض لها نقداً ومسحاً تاريخياً، لأنَّ الحديث عن موقف سياسي فيما يخص الشخصية ذات البحث، لأن التأريخ لفترة زمنية لايعني مع/ ضد، وعند المؤرخ النبيه كلما يقف على حدث ما ويفككه بجرأة فهو منطقيا بعيدا عن المغالطات التي قد يتهم بها، لذلك وكما يلاحظ الكثير من القراء المتابعين عزوفا شبه كامل عن تحليل تلك الفترات تحليلاً علمياً موضوعياً، بما لا يخل بالنهج العقدي ولا يتجاوز المحظور.

 

_____

  1. أ.د عبدالهادي ناصر العجمي. أستاذ التاريخ.كلية الآداب. جامعة الكويت.
  2. د. زهير الخويلدي، مقال: الحدث التاريخي بين القصص الأدبي والسرد الفلسفي، نشر في شبكة النبأ المعلوماتية في 20 أبريل 2020.