د. رضية بنت سليمان الحبسية
لقد أسررت في نفسي سابقًا، العزم على عدم الكتابة مجددًا في طوفان "كوفيد-19"؛ قناعةً مني بأنّ الخوض في قضية عالمية بهذا الزخم، بما لم تناله قضية عصرية أخرى، نوع من الإضافة التي لا محل لها من الإعراب؛ حيث شُلت قُوى الكيانات الحكومية والمجالس الشعبية، من احتواء كارثة مجتمعية مصيرية، لا عاصم اليوم منها إلا مَنْ رحمه الله، بل وتجمدّت عقول ذوي الألباب والمفكرين في تفسير ما يحدث من تناقضات ومفاجآت تتعلق بتطورات الفيروس نفسه، وعقاقيره التي خرج بها العلماء من معاقلهم، في زمن قياسي لإنتاج الفيروسات، عما كان معلوماً لديهم سابقًا.
وفي ظروف يُعدّ عامل الزمن فيها جوهريًا، أصبح الفرد منِّا لا يعلم من أين سيأتيه الموج، وإنْ حاول الإيواء بنفسه وأسرته في قمم الجبال، أو سفوح الوديان، أو كهوف الخيران؛ فالمجتمعات العربية لم تعرف طبع الانعزالية، أو الاعتكاف طويلا عن بني جنسه وأهله وذويه وعشيرته. وهو إجراء ما لم تجد له منظمة الصحة العالمية علاجا سواه؛ لإنقاذ البشرية من ويلات وفتك فيروس عابر للقارات والمحيطات، مهما بذلت الحكومات من تدابير الوقاية والحماية، وحظر التنقل بين الدول؛ نظرًا لتداخل عوامل متباينة ذات ارتباطات تشعبية بمجالات شبكية، وقطاعات عالمية. خاصة في ظل عدم مأمونية أو ضمان فعالية اللقاحات المعتمدة في وقاية الناس من الإصابة بالفيروس بشكل قاطع، ولا المراهنة على كفاءته في التحصين ضد أية فيروسات متحورة وظهور سلالات جديدة أكثر خطورة.
ولهذا الواقع، ومع هذه المعطيات يرفع الناس أياديهم مستسلمين؛ لهجوم كوفيدي شرس تختلف حدته من فرد لآخر، ويختلف تأثيره من حالة لأخرى. فلا لوم على جنس البشر من تصاعد حالات الهلع بينهم، وتفاقم حالات الاضطراب في أوساطهم، بل وتزايد ردود السخط والغضب من قبلهم، عبر منافذ التعبير والتصاريح المختلفة؛ لإيصال مخاوفهم وقلقهم على مستقبلهم وعائلاتهم لجهات الاختصاص. فعلى الرغم من الدروس والعبر التي استقتها الأطراف جميعها من موجتي الجائحة الأولى والثانية، إلا أن الموجة الثالثة قد ألقت بسلالات متحورة، وظهور لأخرى متوقعة، الأمر الذي يجعل الناس متذبذبين بين دوام الثقة فيمن يملكون زمام قيادة الأزمة، وبين ما يتابعون عالميا من تداعيات الجائحة. وتدهور العلاقات الأسرية والتعاملات المجتمعية، بين قطبي استمراية التماسك ماليًّا، والتباعد جسديًّا، كنتيجة طبيعية لكارثة طال مداها، ذات طبيعة حربية باردة، لم يعتداها أجيال الستينيات والسبعينيات، وما بعدها.
ولم يعد المطلب لدى المجتمعات والشعوب، سوى الإسراع في إيجاد لقاحات علاجية ناجعة لكافة أنواع وتحورات فيروس كوفيد-19، والشفافية التامة، والبيانات العاجلة حيال أية مستجدات، بل والعجلة والصرامة في تطبيق الإجراءات القانونية والوقائية من تدهور القطاعات الصحية، أو فقدان السيطرة المجتمعية. فلا مجال اليوم للأخطاء الإضافية أو التجاوزات الفردية في قضية تهز الرأي العام، وتطال القطاع الحكومي والخاص؛ لكون انعاكاساتها شملت مجالات الحياة كافة.
فعلى كل ذي علاقة تفهم وإدراك خطورة الموقف وتداعياته الصحية والاقتصادية، وتأثيرات الجائحة المباشرة وغير المباشرة، على الأفراد والمؤسسات بدرجة أكبر مما مضى. وفي واقع الأمر فإنّ المواطن في كل البلدان يُلقي بالمسؤولية الشاملة والكاملة على الحكومات واللجان المناط إليها التعامل مع الجائحة؛ للنأي به وبمصالحه إلى بر الأمان. سواء بِسَنْ القوانيين ووضع الضوابط، أو التشدد في تنفيذها. فالعبرة بالنتيجة التي يرتجيها الفرد، انطلاقا من المسؤولية الوظيفية لتلك اللجان، والمستندة إلى مواقعهم المؤسسية. فبالرغم من الانتقادات المستمرة والاتهامات المتكررة تجاه جودة القرارات وفعالية الإجراءات المتخذة، فإنّ الناس متلهفة لإجراءات أسرع، وحلول أكثر جدوى واستدامة، تتواءم مع التطورات المتسارعة للجائحة، وتأثيراتها المأساوية محليًّا وعالميًّا.