مرباط والجدري وكورونا

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

لست بصدد عقد مقارنة بين الجائحات ولا مدى هولها ومدى فتكها بالعباد، ولا يُمكن أن نعزيها لأكثر من كونها ابتلاءات من الله، ونحن كمسلمين نعرف واجبنا الديني الذي أمرنا به الله أمامها وما يمكن التحلي به في مواجهتها.

لقد أعاد كورونا إلى الذاكرة ماسمعناه وعرفناه عن وباء أو جائحة الجدري في مرباط، بداية القرن المنصرم، كان الجدري قدر مرباط المدينة البحرية في ذلك الوقت، وهي على ماهي عليه من إمكانات متواضعة، وبعدها عن صلالة 70 كيلومترًا، ولا مواصلات سواء الدواب والأقدام، تتعدد الجائحات والخوف واحد.

انتقال كورونا بين البشر قد عرفناه سريعاً وفي بدايات انتشاره، نتيجة ما أصبح عليه العالم اليوم من تواصل وتقنيات علمية كبيرة، وهذا مصداقاً لأول سورة في القرآن نزلت على نبينا اقرأ وقد كنَّا أولى من غيرنا بأن نقرأ، "كأمة اقرأ".

عرفنا منذ بداية جائحة كورونا أنها تنتقل باللمس ورذاذ العطس وغيره، إذن الأمر بيد كل فرد منِّا وتحت سيطرتنا الكاملة، خاصة وأن المطهرات والمعقمات والكمامات والحمدلله من أرخص منتجات العصر وتتوافر للجميع.

أما الجدري فينتقل أحيانا بالهواء، إضافة إلى اللمس وغيره، وعندما تفشى لم تكن هناك مطهرات أو معقمات ولا كمامات ولا أكسجين، وتوقف الهواء يعني الموت اختناقاً قبل الموت بالجدري.

ذكرني كل هذا أيضاً بالرعب الذي أصابنا في عمان إبان رصد إعصار جونو قبل عدة أعوام، إلا أننا استفدنا منه وهيأنا دفاعنا المدني للتعامل مع مثل هذه الأنواء والذي تصدى لها بعد ذلك بجدارة مشهود بها في الأعاصير اللاحقة كإعصار مكونو وماتلاه.

جعلني ذلك أيضاً وفي حينها اكتب مقالاً عن إعصار 1964 على الجنوب، وكنت حينها لم أتجاوز الرابعة من العمر، إلا أنه كان حدثًا يلتصق حتى بذاكرة الرضيع، ومع ذلك تجاوزنا بأيدينا العارية ذلك وفتحنا خندقاً على شاطئ الحافة لتصريف المياه التي تراكمت، لم أتذكر أنني رأيت هلعاً على الوجوه بل رضًا تاماً بقدرة المقتدر فحلت السكينة والسعي والأخذ بالأسباب.

اليوم أعيد عليكم ما سمعناه وتواتر إلينا عن جدري مرباط في بدايات القرن المنصرم.

مدينة بعيدة عن صلالة، البحر من أمامها والجبل خلفها والهواء يضربها من كل الاتجاهات فوجد الجدري مرتعه فيها واستقر بها. عرف أهل مرباط بفطرتهم ألا منقذ لهم إلا الله وإيمانهم والأخذ بالأسباب، لا طبيبا مداويا، فقط بعض المعالجين الشعبين، أخذوا مُصابيهم- وكان بينهم عوائل كاملة أصيبت بالعدوى- إلى منطقة شرق المدينة خوفا من توسع انتشاره بها إلى الآخرين، إلى مكان منخفض بقرب بئر ماء، حاملين معهم ما أمكنهم من زاد يسد الرمق.

قادتهم الفطرة السليمة والحكمة- وقبلهما الإيمان بالله- ووضعوا مرضاهم في كهف يضيق مدخله ليوفر لهم فقط هواءً للتنفس ويمنع انتقال الفيروس خارج الكهف قدر الإمكان، وطببوهم بما تيسر لهم ودفنوا موتاهم وعددهم ليس بقليل حينها نسبة لعدد السكان، ومقبرتهم لا زالت شاهد عيان على تلك الجائحة رحمهم الله جميعاً، وأنقذوا الأغلبيه من البشر.

هاهم اليوم أبناء مرباط الإيمان والإباء وجوار قبر الصحابي الجليل زهير بن قرظم والولي محمد بن علي راعي مرباط والرباني محمد القلعي من تابعي الشافعي وغيرهم.

فهل من متعظ؟!

تعليق عبر الفيس بوك