الدختر

خالد بن سعد الشنفري

قبل إشراقة عصر النهضة المباركة، كان لا يوجد في ظفار كلها سوى عيادة صحية واحدة. أترحَّم اليوم على ذلك الرجل الذي كان عبارة عن مؤسسة صحية متكاملة لوحده، كان طبيب السلطان سعيد بن تيمور الخاص، وطبيبا وحيدا لأكثر من خمسة وعشرين ألفًا هم سكان ظفار آنذاك.

إنه المغفور له بإذن الله الدكتور أحمد شفيق الربيعي (الدختر)، طبيب مدواٍ وحيد مع عدد بسيط من المعاونين الذين اختارهم ممن توسَّم فيهم مواصفات ملاك الرحمة؛ فدرَّبهم على يديه في عيادته الوحيدة في صلالة وظفار كلها.

هذه العيادة المدرسة التي كانت تقبع في منطقة وسط بين المدرسة السعيدية الوحيدة بدورها في صلالة وقصر الحصن مقر السلطان.

الدكتور أحمد شفيق اسم ﻻت قتصر معرفته على صلالة وظفار مدينة وجبلًا وبادية فقط، فلقد عرفته قبل ذلك صحار ومطرح، وقبلها العراق ولندن والقاهرة في مشوار حياة حافل، قضاها في تعلم المهنة والعمل بها وتعليمها.

رجل شق طريقه وكأنه يعرف اتجاهه منذ نعومة أظفاره، شد الرِّحال حيث العلم والتلقى والعودة للمكان الذى احتضنه غضًّا ويافعًا، ليرد له الجميل، وليعطى بلا كلل وﻻ ملل لعقود، رغم أن السبل قد تيسرت له ليبقى هناك فى بلاد الغرب التى علَّمته، إلا أنَّ الربيعى عاد إلى صحار بعد أن أنهى تحصيله العلمي، وهذا مما يحسب له وتاج على رأسه فاستقر فيها مداويا ومطببا لجراح تلك السنين الغابر،

وتزوج بصحار وأنجب ابنته الأولى هناك.

فى العراق كان الميلاد عام 1908م؛ فهو عراقى الأصل من قبيلة الربيعى العراقية المعروفة. وفي صحار كان المنشأ، ثم عاد مجددا للعراق لتكملة الدراسة الثانوية، هاجر بعدها إلى المملكة المتحدة البريطانية لدراسة الطب، حتى أكمل تعليمه، وحصل على شهادة الطب، توجَّه بعدها إلى القاهرة، وحصل علي دورات في تخصص طب الأسنان لعلمه بأنَّ عمان تحتاج إلى تخصص شامل في فروع الطب الأساسية.

عاد بعدها إصحار وفتح عيادة هناك وتزوح من امرأة من عائلة العصفور من صحم، أنجب منها ابنته الأولى.

بعد ذلك، ولبراعته، تم إقناعه من قبل صديقه السيد محمد بن إبراهيم البوسعيدى مستشار السلطان سعيد بن تيمور في مسقط بالذهاب لمطرح؛ حيث أنشأ بها عيادة طبية وصيدلية.

بعد ذلك بفترة قصيرة، استدعاه السلطان سعيد بن تيمور إلى صلالة ليكون طبيبه الخاص، وأيضا الطبيب العام الوحيد لكل ظفار.

مارس عملة وحيدا فى العيادة الصغيرة بمقياس زمننا الحاضر، الكبيرة بمقياس ذلك الزمن.

حسب تقديرات العارفين فإنَّ وصوله صلالة كان فى الثلاثينيات، فابنه البكر من زوجته الظفارية كان مولده فى بداية الأربعينيات.. درب الدكتور عددا من أبناء صلالة ليعملوا معه بعد ذلك كمعاونين، وآخر من نتذكرهم وبقوا معه إلى بداية السبعينيات؛ هم: محمد حبريش، وليد، ظفار، تلاهم آخرون وبعض النسوة المساعدات.

ما زلت أتذكر ملامح وجهه في أواخر الستينيات جيدا؛ فقد كان أنيق المظهر بدشداشته العمانية وعمامته البيضاويين، يكسو محياه بعض الصرامة تقتضيها مسؤزلياته، ولكم كان ذا شخصية مهابة، إلا أنَّ أياديه ﻻ تتوقف عن الرحمة واسعاف كل من يصل إليه بما يتوفر لديه، ويبذل أقصى جهده للجميع بما تيسر له من أدوية محدودة ومعدات متواضعة.

ﻻ شك أنَّ شخصية وشجاعة الدختر الأبية أعانته كثيرا على تجاوز ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقه؛ فليس سهلا الشعور بأنَّ بلدًا بأكمله شبه منقطع عن أي تجمع بشري قريب منه، يزيد تعداد سكانها عن 20 ألف نسمة كظفار فى حاجة إليه، وفى أمسِّ وأعز شيء لدى الإنسان أﻻ وهو الصحة.

لم يَكُن له زملاء مهنة يستعين أو يتشاور معهم، وهذا ما يفعله عادة الأطباء، فما بالك بطبيب عام شاب أتى لمعالجة بلد قد استوطنته الأمراض؛ فالأمراض دائما رديفة للجهل والفقر، وحدِّث عنهما وﻻ حرج فى ستينيات صلالة كما أتذكرها.

"الدختر".. لقب أطلقه عليه الظفاريون، ويبدو أنه اجتهاد منهم فى الترجمة الحرفية لكلمة الدكتور؛ حتى إنَّ عائلته عرفت أيضا باسم بيت الدختر، وعيال الدختر، ومزرعة الدختر، بل وحتى دراجته النارية الوحيدة بصلالة تسمى "سيكل الدختر".

كانتْ دراجة نارية حمراء 50 سى.سى، حصل على ترخيص استثنائي خاص ووحيد على مستوى صلالة من السلطان ﻻستخدامها، كان صوتُها مميزًا يستقلها صباح كل يوم من بيته في مزرعته (مزرعة الدختر) إلى العيادة.

لم تكن ميزة ترخيص الدراجة النارية هي الاستثناء الوحيد من المحظورات في صلالة في تلك المرحلة، فقد سُمح له أيضا بمولد كهربائي صغير لانارة بيته، وهو بدوره البيت الوحيدة خارج القصر التي سمح لها بذلك، مما مكنه من استجلاب سينماء صغيرة (بروجكتر) من الخارج، واقتناء أعداد كثيرة من الأفلام العربية والعالمية، كانت تصله أيضا الصحف الإنحليزية والعربية، وإن كانت تأتي متأخرة عن تاريخ صدورها؛ وذلك عن طريق محطة RF القاعدة الجوية البريطانية بصلالة، يقرأ الصحف ويتابع أخبار العالم ويخصص يوما في الأسبوع لجلسائة المقربين لمشاهدة فيلم فى بيته بمزرعته في منطقة القوف.

كانت عيادة الدختر بالحصن تفتح أبوبها فى الفترة الصباحية إلى ما بعد الظهر. أما فى بيته بالمزرعة، فالدكتور لا يعرف القيلولة؛ فهو يستقبل اي مريض يأتي إليه في غرفة خصصها لذلك، وملحقًا بها عيادة أسنان يتردد عليه من كانت حالته حرجة، ولا ينتظر إلى وقت دوام عيادة الحصن الرئيسية، لقد كان فى منتهى التواضع والبساطة فى تعامله مع زواره من المرضى من مختلف الأطياف: المدينة أو الجبل والبوادى والمناطق النائية الذين يقطعون عشرات الكيلومترات مشيا أو على الدواب إلى عيادته، وفي منتهى الكرم أيضا مع من يشعر بإعساره وضيق ذات يده. وقد جهز بجانب بيته فى المزرعة خيما صغيرة لتنويم بعض الحاﻻت الصعبة لمتابعة حاﻻتهم، ويستضيف من ليس له أهل بالمدينة بالطعام مجانا.

وكان الدكتور فى الحاﻻت المستعصية التى يعجز عن علاجها لعدم توافر الأجهزة والمعدات اللازمة لذلك، يخاطب السلطان سعيد بن تيمور لإرسالهم إلى أحد مستشفيات القواعد البريطانية فى عدن أو البحرين على طيرانهم العسكري.

لم تكُن علاقة الدكتور أحمد شفيق بالسلطان سعيد مُقتصرة علي اﻻستشارات الطبية فقط، بل تجاوزتها إلى جوانب أخرى؛ فقد كان الدكتور -علاوة على دراسته وترحاله وإقامته لسنوات فى عاصمة الثقافة العالمية لندن آنذاك- كان قارئًا نهمًا، وقد حدَّثنى أحد أبنائه بأنه إذا لم يكن يعمل يكون مُمسِكا بكتاب أو جريدة (عربية أو أجنبية)؛ فقد كان يجيد أربع لغات: العربية، والإنجليزية، والعبرية، والهندية، وكان قليل الخروج من بيته إلا للعمل وقضاء مصلحة معينة، إﻻ أنَّ له مُريدين لمجلسه فى بيته، وكان له يوم فى الأسبوع لعرض فيلم عن طريق سينما البروجكتر مع لفيف من المقربين إليه. وقد كان من المقربين له معالى الأستاذ المستشار حفيظ بن سالم الغسانى، وعلي بن أحمد الكتيني الرواس، ووالدي، وآخرون، رحمة الله عليهم جميعا. فقد كانوا ثُلة من الصَّفوة المتنورين، وقد كان أول تدريب لوالدي في مجال الصحة وعلومها التي يعشقها على يد الدكتور أحمد شفيق.

استمرَّ أحمد شفيق في علاج مرضاه حتى بعد الثالث والعشرين من يوليو 1970 عصر النهضة؛ فلم تنزل علينا المستشفيات والأطباء فجأة من السماء؛ فقد زاول "الدختر" عمله المعتاد لأشهر، حتى تمت تهيئة أول مقر لمستشفى صلالة، وهو المبنى الذى كان قد تم تشييده فى الستينيات من عهد السلطان سعيد، بالقرب من قصر الحصن، وانتشر بين أهل صلالة حينها بأنَّ السلطان سيقيم عليه مستشفى أو مركزا طبيا كبيرا للمواطنين، عِوَضا عن عيادة الدختر، إلا أنَّ الموضوع سُكِت عنه، حتى عشَّشت الطيور عليه، وأصبح مأوى للكلاب الضالة، وهذا أيضا ينطبق على مبنى صغير جميل حديث بُنِي من الخرسانة والحديد على خلاف المستشفى المقترح الذي استعملت الأحجار في بنائه، وقد انتشرَ بين المواطنين كذلك بأنه سيكون مبنًى لمحطة كهربائية لتغذية المناطق القريبة من الحصن، عِوَضًا عن المحطة الكهربائية الحالية الموجودة داخل أسوار الحصن، إلا أنَّ أيًّا من ذلك لم يتحقق، وظلت هذه المباني خاوية على عروشها، وكأن قرار صرف النظر عنها تزامن مع تزايد نشاط الثوار بالجبل.

تمَّ تأهيل وعمل صيانة سريعة لهذا المبنى في الأشهر الأولى من عصر النهضة ليصبح مستشفى، ونزلت أثناء ذلك فرق طبية عسكرية مجهزة بسيارات إسعاف طبية لتأدية خدماتها الطبية المتكاملة، فانهالت عليها أفواج من الناس من كلِّ حدب وصوب في ظفار، من الذين كانوا يحملون أمراضهم بصمت وتحمُّل وجَلَد طوال السنين الماضية، وقد قامتْ هذه الفرق الطبية العسكرية بدور كبير تُشكر عليه، حتى تمَّ تسليم المستشفى للطواقم المدنية بالتدريج، ورجعت هذه الفرق العسكرية إلى ثكناتها.

بدأت قوافل العائدين العمانيين تعود لأرض الوطن، وتسهم فى البناء وتقديم الخدمات لشعب انحرم منها عقودًا، وكانت لأعداد منهم الخبرة العملية من الخارج.

أغلق "الدختر" عيادة الحصن بعد ما يربو على الثلاثين عاما من العمل بها، وانتقل كل معاونيه في عيادته إلى مستشفى صلالة الجديد.

وفي العام 1976م، انتقل كل العاملين بمستشفى صلالة إلى الصرح الطبي الكبير مستشفى السلطان قابوس،  واستُدعِي الدختر أحمد شفيق للعمل بعيادة الديوان السلطانى، وبالقرب من صاحب الجلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه.

وفى العام 1975، طلب الدكتور أحمد شفيق من صاحب الجلالة إعفاءه من العمل؛ فقد آن له أن يستريح، فرجع إلى بيته بين كتبة وأفلامه القديمه.. سكت الموتوسيكل هيونداي 50 سى.سى من شوارع صلالة، ودخلت بدلا عنه هيونداى 90 و120 سى.سى، لكن بدون صوت.

آن الأوان له أن يتوقف مع توقف هدير الدراجة، ولكن صلالة الوفية ما زالت تحفظ هذا الصوت المميز والوحيد فى زمانه.

ظلَّ "الدختر" أو الطبيب أحمد شفيق الربيعى -عراقي المولد، بصراوي الطفولة، صحاري الشباب، ظفاري العطاء- ملازما بيته كعادته، حتى وافته المنية فى 1995/3/25. رحمهم الله جميعا، وأمد فى عمر من ﻻ يزال حيًّا يرزق.

ظل صاحب الجلالة يبعث له بين الفينة والأخرى مندوبين من جلالته للاطمئنان على أحواله، ويعرضون عليه الفضل من جلالته، فيحمِّلهم في كل مرة يأتون إليه سلامه لجلالته، وتمنياته له بالتوفيق والسداد، شاكرا وممتنا، مُردِّدا فى كل مرة بأن لديه ما يكفيه.. رحمك الله يا أبا حافظ.

تعليق عبر الفيس بوك