لغز الحياة (9)

الوعاء أولًا

أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي

كلية العلوم - جامعة السلطان قابوس

لو أحضرت لك حوضا يحتوي على مئات الليترات من ماء مغلي، وأحضرت لك بضعا من الجرامات من اللحم والخضار، وبعض البهارات، وطلبت منك أن تقوم بتوفير وجبة طعام للغداء، فهل بإمكانك القيام بذلك؟!

لا شك أنَّك قبل إعداد الوجبة في هذا الحوض، ستبحث عن وسط صغير، مثل وعاء معدني أو زجاجي، ومن ثم تقوم بوضع اللحم والخضار والبهارات فيه، أما طبخ بعض جرامات من اللحم مع الخضار والبهارات في حوض كبير فيبدو أمرا شاقا وعسيرا إن لم يكن مستحيلا!

بهذه الطريقة، يحتجُّ بعض العلماء المهتمين بنشأة الحياة حول أهمية أن يكون جدار الخلية هو أول مكونات الخلية تكونا؛ وذلك لأنَّ المركبات الأساسية في الخلية يعتمد أحدها على الآخر، فلكي تقوم هذه المركبات بوظائفها لا بُد أن تكون في محيط منفصل وبيئة خاصة بها؛ لذا قد يكون جدار الخلية أولى الأجزاء التي قد نحتاج الى تكوينها ومن ثم تستطيع هذه المركبات القيام بوظائفها داخل هذا الوسط المنفصل عن محيطه.

لهذا؛ فقد استبعدَ البعضُ أن تكون الحياة الأولية نشأت في المحيط أو في مياه البحر؛ لأنَّ تركيز المواد العضوية سيكون مخففا جدا، ولن يسمح ذلك بحدوث تفاعلات كيميائية حتى لو تركت لبلايين السنين.

ومن هنا، فقد طرح السؤال: ما هي البيئة المناسبة لتكون وسطا بيئيا منغلقا يمكن للمركبات العضوية أن تتفاعل فيه لتنتج مركبات عضوية مُعقَّدة؛ مثل: البروتينات أو مركبات الـ"دي.إن.إيه" والـ"آر.إن.إيه"؟

وهناك عدد من النظريات البديلة، وكل هذه النظريات تُجمِع على أمر واحد؛ وهو أنَّ الماء هو الوسط الذي نشأت فيه الحياة، وأن الحياة لا يمكن لها أن تنشأ بدون الماء، فهو الوسط المثالي لحدوث جميع التفاعلات الكيميائية.

ومن أهم النظريات العلمية في هذا الصدد النظرية التي تذهب إلى أن الحياة الأولى نشأت في مياه الينابيع الساخنة التي تكونت فوق ترسبات بركانية تحتوي على مركبات عضوية كالأحماض الأمينية، وبعض المركبات العضوية الأخرى مصدرها الشهب والنيازك. والسبب الذي يدعو للاعتقاد بأن الحياة نشأت في هذه الينابيع الساخنة، أن هذه الينابيع المائية تمر بدورات، تقل فيها المياه؛ بل ربما قد تجف تماما، وهذا يؤدي لارتفاع تركيز المواد العضوية الموجودة في تلك المستنقعات؛ وبالتالي يسمح بتفاعلها معا.. لكن كيف يمكن لوسط منعزل أن يتكون في هذه المستنقعات؟

إنَّ السرَّ يكمُن في أن بعض المركبات العضوية الموجودة في هذه المستنقعات تتكون من أجزاء كارهة للماء؛ لهذا فإنها تحاول أن تجتمع معا في الوسط المائي مُحَاوِلة تكوين بيئة مغلقة على نفسها لتكون وسطا كارها للماء داخل الوسط المائي، ويمكن أن يحدث ذلك عندما يزيد تركيزها بشكل كبير في الوسط المائي؛ وذلك عندما تتبخر كميات كبيرة من الماء في المستنقعات المائية.

وربما تكون الفقاعات التي تنشأ من خلط الماء مع الصابون مثالا جيدا للتوضيح، فهذه الفقاعات عبارة عن أغشية رقيقة جدا مؤلفة من ثلاث طبقات: طبقة رقيقة من الماء محصورة بين طبقتين من جزيئات الصابون، وتعرف هذه الخاصية بخاصية التجمع الذاتي للمركبات، وهي عملية تلقائية تحكمها قوانين طبيعية فيزيائية وكيميائية معروفة، وكل خلية حية يحدُّها غشاء شبيه بأغشية الفقاعات تتكون من جزيئات شبيه بالصابون تسمى "الليبيدات"؛ وهي الوعاء الحاضن لمركبات الحياة.

ولُوحِظ أنَّ الأغشية المتكونة من "الليبيدات" غير ثابتة، وتتأثر بالأملاح المذابة في الوسط، وهذه الأملاح كانت موجودة في تلك البيئة التي تكونت فيها هذه الأغشية؛ لهذا فلابد من وجود عوامل أخرى وجدت في الوسط لكي تزيد من ثباتية هذه الأغشية المتكونة.

وفي دراسة مهمة نُشرت في إحدى المجلات العلمية في أغسطس عام 2019، لوحظ أن وجود تراكيز معينة من الأحماض الأمينية في الوسط المائي يحمي الغشاء ويزيد من استقراره؛ وذلك من خلال ارتباط الأحماض الأمينية بالغشاء، عبر روابط فيزيائية، وهذه الأحماض الأمينية تعمل على وقاية الغشاء من الأملاح المذابة في الماء، كما أنَّ هذا الارتباط الفيزيائي له فائدة أخرى مهمة، وهي أنَّ التجاذب الحاصل في الغشاء والأحماض الأمينية يعني أن هذه الأحماض الأمينية قد تركزت حول الغشاء بنسب عالية؛ مما يزيد فرصَ تفاعلها مع بعضها البعض لتكون البروتينات التي تعد أحد أهم المركبات الكيميائية لعمل الخلايا الحية، كما أنَّ ذلك يعني أن غشاء الخلية قد تكون قبل تكون البروتينات، بل ولعب دورا مهمًّا في زيادة تراكيز الأحماض الأمينية، ومن ثم من احتمال تكون البروتينات.

إنَّ هذه الفرضية مقبولة علميًّا، لكنها أيضا تفتقر لدليل علمي محكم يرفع من قيمتها العلمية ويجعلها تتفوق على أقرانها من الفرضيات الأخرى.

---------------------------------

مصادر للتوسع في الموضوع:

  1.  The Fifth Miracle, The Search for the Origin and Meaning of Life – Paul Davies

2-  C. E. Cornell,  R. A. Black, M. Xue, H. E. Litz, A. Ramsay, M.Gordon, A. Mileant, Z. R. Cohen, J. A. Williams, K. K. Lee, G. P. Drobny, and  S. L. Keller, Prebiotic amino acids bind to and stabilize prebiotic fatty acid membranes, PNAS August 27, 2019 116 (35) 17239-17244

------------------------------

"سلسلة علمية تحاول إلقاء الضوء على أهم وأصعب أسرار الطبيعة قاطبة، والتي لا يزال العلم يسبر أغوارها ويحاول جاهدا كشف مكنون أسرارها... كيف نشأت الحياة؟".