علي بن سالم كفيتان
لا أدرى كيف انتابني هذا الشعور، رُبَّما لحظة حماس، وربما نبش في الذاكرة غير البعيدة، وقد يغفر لي قُرَّائي أنني رجل قروي من ريف ظفار، إذا تحمَّست وشطَّ قلمي هذه المرة صوب الجبال، فهي مهد الصِّبا ورمز النقاء ومضارب لا تطفئ نارَها عاتيات الزمن، فإذا توسدتُ الجبل نمتُ مطمئناً، وإذا مشيت عليه لا أجده رخوا تحت قدمي، وهذا غالباً ما يلهمني الذهاب بعيدا؛ فهو يمنحني مفاتيح أسراره، فلا أحتاج لشيفرة عرفتها منذ كنت صغيرا؛ فالأرض ما زالت تحتفظ بآثار قدمي الحافيتين، ولا يزال صدى صوتي يتردد في الوديان، ولا يزال النبعُ الصغير ينساب من روح الجبل، ويذكِّرني عندما نتسابق إليه أنا وأغنامي مَنْ يشرب أولاً؟! أمَّا الأشجار فقد خانها الزمن؛ لكنَّ بقاياها لا تزال واقفة وجذورها لا تزال متشبثة بهذا الجبل العنيد.
يسود شعور العزلة والتوجُّس، وربما الخوف من ذاك السديم الأسود، حليف الأفق منذ زمن بعيد، ربما لأنه أول من يتلقَّى خيط الشمس عند الشروق، وربما كون ظلاله تغطي السهول والأنحاء البعيدة كل مساء، وربما لأنه من يستطيع الإمساك بالسحب العابرة فيعصرها ليأخذ وضوءه ويترك الباقي ينساب لمن لا يقوون على الصعود عالياً، كل هذه الصفات تجعل منه ذلك الغامض الذي ظل صامتاً ولم يبُح لأحد سوى لرجال ونساء من الزمن الجميل. لا أدري إن بقي منهم أحد، أم أنهم رحلوا جميعاً؟ يقيني يحدثني بأنَّه يعرف البصمة الوراثية للجميع، فيتعرَّف على الأبناء والحفدة بسهولة عندما يُرخون أجسادهم على ثراه الطاهر، فكل ما عليك فعله بعد ذلك هو أن تُمسك بكومة من ترابه، فإنْ تناثرت فاعلم أنَّك لست من الديار، وتأكد أنه لا دخلَ للريح في الأمر؛ فهي تأتي وتمضي ولا تقوى على أخذ ما وُلد بين الصخور.
لا أدري إنْ كُنا بحاجة لإعادة قراءة الجبال، فبلادنا تحرسها تلك الشوامخ من كل الأرجاء، لكننا لا نرى فيها إلا الغلاف الخارجي فقط، ونجهل ما دون ذلك تماما؛ فالسياحة والتعدين وجهان التصقا بالنظرة الحديثة لاستغلال الجبال، وتمَّ اختزال دور الإنسان حتى أصبح هو العنصر المُزعِج الذي يقف خلف تأخير تلك التوجهات. تمنيتُ لو تتاح الفرصة لصانعي القرار، بأن يقوموا بتكليف مركز دراسات اجتماعية متخصص لدراسة مجتمعات الجبال في عُمان، والتعرف على الأسباب التي تجعلهم متوجسين من كل جديد قادم إليهم عبر المخططين القابعين في صوامعهم، ولماذا هم مُتمنعون وغير واثقين مما يُخطَّط له فيما يتعلق بشؤون حياتهم ومستقبلهم؟ أليس حريًّا بنا التفكير بلغة العلم بعيدا عن لغة الإملاء والفرض؟! فمهما كانت الاستجابة تحت الإكراه، تظل مفتقدة لروح النجاح؛ فلا يُمكن أن توفق خطط تغيِّب العنصر البشري، وتفكِّر نيابةً عنه هذه النظرة النرجسية للمسؤول الحكومي، يجب أن تتراجع ويتم العودة للمجتمعات المحلية وتدارس طموحاتها وآمالها لمستقبل أفضل؛ فمن هذا الباب يمكن الولوج لكنوز الجبال الغامضة.
من الجدير بالذكر هنا سَرْد موقف حدث لي؛ حيث إنَّني ومنذ مدة ذهبتُ لمؤسسة معنية بشؤون المناطق الريفية، فوجدت أنَّ المسؤول لديه سكرتارية، لكنَّ بابه مغلق بقفل إلكتروني بأرقام سرية، لا يعلمها حتى المنسِّق، وجمع من الناس ينتظرون في صمت وضجر، وبعد كل فترة يملُّ أحدُهم فيذهب مُتذمِّرا من هذا القفل السري العجيب الذي يخفي خلفه كنزا ثمينا، هو ذلك المسؤول المتمترس خلفه في الداخل، فسألت السكرتير عن سر هذا التأخير وهذه المماطلة؛ فقال لي -بكل برود: "هو يراكم في الشاشة عبر هذه الكاميرات، وإذا رغب في إدخال أي واحد منكم يتَّصل بي ويدوس زر الفتح، ودون ذلك لا ناقة لي ولا جمل"!! فقلتُ في نفسي: "كيف لمثل هؤلاء أن يزرعوا الثقة في الناس؟ وما الذي يخيفهم من ترك الباب مفتوحاً؟".
هذا النوع من الأبواب المُحكَمَة نجده على غرف العناية المركزة للمستشفيات، وهذا أمر مُبرَّر لحماية المرضى، لكن صاحبنا الذي يقبع بالداخل ليس مريضاً، كما أن هذا النوع من الأقفال يكون على خزائن البنوك المليئة بالنقود وودائع الذهب، لكن صاحبنا ليس لديه شيء من هذا، وقد نبرِّر وجود كل هذه التحصينات عندما تدخل أحد السجون التي تؤوي عتاة المجرمين، لكن لم أجد مبرراً لتلك السلوكيات التي باتت تنتشر للأسف في أكثر من جهة حكومية اليوم.
هل فَقدنا "الكتالوج" الذي وضعه باني عُمان وقائد نهضتها -رحمه الله- للتعامل مع جمال وروح الجبال العُمانية؟ لماذا كل هذه القسوة وهذا الجفاء؟ أنا متأكد أن ذلك الكتيب التعريفي الأنيق لا يزال في قصر الحصن العامر، يحكي سنوات من الممارسة المحترفة للإدارة المحلية والذكاء العاطفي النادر. لَيْتهم يجدونه، فهو لا يزال صالحًا للاستخدام رغم رحيل صاحبه.