الجواري في العصر العباسي

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"إنَّ تدخل الجواري في شؤون الحكم وسيطرتهن على الخلفاء العباسيين، كانت له آثاره الوخيمة على الدولة، وكان أحد الأسباب المهمة في ضعفها ثم انهيار نظمها السياسية والاقتصادية؛ وبالتالي توجه أنظار الطامعين من أتراك وبويهيين ومغول" - د. ناهضة مطر حسن.

*****

ذكر التاريخ أنَّ حواء منذ فجر العصور القديمة -وبما أنها الطرف الآخر للبشر- كان لها التأثير المباشر وأحيانا غير المباشر في التغيير الجذري بشتى مناحي الحياة، بدءا من حياتها الشخصية الخاصة مع والديها والأسرة حتى تصل إلى الحياة مع شريكها الزوج، كذلك يصل الأمر إلى أعلى هرم الدول، خاصه اللاتي كن في القصور الملكية الحاكمة على مر التاريخ. ومن مِنَّا لا يعلم عن امرأة العزيز ونفوذها وقصتها مع سيدنا يوسف عليه السلام؟!! وامرأة لوط وامرأة نوح عليهما السلام. وفي التاريخ الإسلامي، من منا لا يعتز بالسيدة خديجة رضي الله عنها ، والسيدة عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين، التي وإن ذكرنا دورها التاريخي في الفتنة ومعركة الجمل والأحوال التي جرت آنذاك، لتبرز مكانتها العالية بين المسلمبن في تلك الحقبة من التاريخ الإسلامي؟!!

لو تتبَّعنا سيرة النساء فيما بعد، وبعد تجاوز عقود الزمن الأموي ووصلنا إلى دار العباسيين، ودهاليز مباني القيادات الحاكمة العليا بالدولة العباسية، سنصل حتما لتفكرات ومشاهد لحركة التحركات النسوية خاصة من الجواري والسبايا في البلاط العباسي. أتذكر في مراحل دراستي للتاريخ (تخصصي الرئيسي)، مررتُ بعدة مقررات تدور مواضيعها حول التاريخ الإسلامي، وفي مراحل أخرى للتاريخ مما لاحظته وشد انتباهي شخصية بلقيس ملكة سبأ، وقصتها مع النبي سليمان عليه السلام، والتي خلدت شخصيتها الأسطورية بذكرها في القرآن الكريم، كذلك شخصية شجر الدر "هذا اسمها الحقيقي وليس شجرة الدر"، وما آلت إليها نهايتها البشعة، كذلك عدة شخصيات لا يتسع المجال لذكرها.

طبيعة الحال لا تجعلنا نستغرب من التحدث والكتابة عن الدور السياسي للمرأة في الممالك والدول منذ قديم الزمان، فكما ذكرت في سطور سابقة هي الطرف الآخر للحياة، ومن أحد أشهر الأحداث التاريخية في التاريخ الإسلامي قصة زواج الخليفة العباسي المعتضد من ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون، وهي قطر الندى، والتي كان مهر زواجها سببا في إفلاس الخزينة العباسية في عهد المعتضد!

واستطاعت بعض نساء الخلافة العباسية المشاركة في قيادة منصب الخلافة بجانب الخليفة، والعارفون بتاريخ الدولة العباسية يعلمون أن كل خلفاء الدولة كانوا أبناء سبايا ما عدا ثلاثة، في حين مارست إحدى أمهات الخلفاء العباسيين مهام الخليفة، ففي عهد المقتدر كانت والدته "شغب"، هي الحاكم الفعلي وبالأصل كانت جارية، وكانت جاريتها كما وصفها الكثير من المؤرخين كأنها تتقلد منصب قاضي القضاة!

أمَّا على الصعيد المالي، فقد شاركت بعض نساء البلاط العباسي القادة والوزراء في إنفاق أموال الخراج على البذخ والإسراف، وكان نفوذ نساء البلاط العباسي في المجال الاجتماعي ظاهرًا؛ حيث قمن بتعبيد الطرق، وإقامة المستشفيات والأوقاف وأعمال الخير الكثيرة، وسر التأثير  السياسي في دهاليز السلطة، أن الكثير منهن ممن أصبحن جاريات ومحظيات كن يملكن التأثير المباشر على السيد، وهنا السيد قد يكون أحد الأطراف المؤثرة في بيت الحكم، وقد سجل التاريخ -كما أسلفت في السطور السابقة- وصول الكثير منهن إلى مرتبة عالية، وأصبحن زوجات أو جاريات خاصات في بيت الحكم، ولا شك منطقيا أنه لا تصل إلا من تملك مواهب خاصة كالجمال الباهر أو العقل المتقد الذي يؤثر على عقل وقلب الشخصية عالية المستوى في بيت الحكم. وقد ذكر التاريخ أنَّ أكثر الجاريات والسبايا من أصول غير عربية كالشركس والفرس، وكذلك كانت هناك جاريات من بلاد إفريقيا.

وبما أنَّ التاريخ يتصل بعضه ببعض، وتتشابه كثيرا من أحداث التاريخ ولو على سبيل الفكرة العامة للحدث، أي أن تجد لمحة من التاريخ في حدث معاصر، وهو أمر يكشفه المؤرخ القائم على تأريخ الحقب الزمنية وأحداث الزمان.

صحيح انتهى وأفل عصر الجاريات والسبايا، لكن الصورة لا تزال تحمل ألوانها ملامحا مما مضى، ولا تزال المرأة تمارس الدور في بيت الحكم بعدة أقطار وأمصار، غير أنَّها قد جلست رسميًّا على كرسي الحكم ولا تزال في عدة بلدان، ولو لاحظت سنجد امرأة الظل المتحكمة بخيوط اللعبة السياسية،  -أو على الأقل تملك التأثير- لا تزال موجودة سواءً على صورة السيدة الأولى، وكمثال معاصر السيدة جيهان السادات في مصر إبان حكم زوجها الرئيس أنور السادات، وكذلك ليلى بن علي زوجة الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي..وغيرهما الكثير سواء في الشرق الأوسط أو خارجه.

المرأة تبقى هي المرأة، وتأثيرها على بيوت الحكم لا يقلل من شأن الحكام الرجال، لكنها حقائق تاريخية لا تقبل الجدل، وكم من امرأة قادت ونالت النجاح، وقد كُتبت بحروف من ذهب العديد من الأحداث التي كان للمرأة دور مؤثر فيها. والجاريات ما زلن متواجدات وإن كن بصور أخرى، وما زال التاثير حاضرا وبصور أخرى أيضا، فقط عليك أن تقرأ وتتابع الأحداث، وكم من جارية بصور عصرية أثرت وما زالت تؤثر على أحداث غيرت مسار التاريخ!