الأطباق الرمضانية بين اليوم والأمس

رحمة بنت منصور الحارثية *

* إخصائية نفسية

كان يا مكان، في زمان ليس بالبعيد، تحديداً نصف ساعة قبل أن يُسدل المغرب ستائره النقية، ويصدح صوت الأذان الذي يلامس شغاف النفوس، حركة دؤوبة في شتى أرجاء الأحياء السكنية بالمطابخ تحديداً.

يُحكى أنَّ أبطال الحركة تلك أطفال لا تتعدَّى أعمارهم العاشرة، بملامح تغمرها الفرحة والسرور، يحملون بأيديهم الصغيرة صحونًا ليست كأي صحون، كل صحن عليه علامة كي لا يختلط بصحون الجيران. قبل أنْ تتنوَّع أصنافها، تنوعت فيها أسمى آيات المحبة والمودة والوئام، يُوزِّعونها وينثرون معها زهورًا عبقة في لحظات خالدة تتربع على مملكة الذاكرة، وينوب كل بيت رشفة من ذلكم العطر التي ما زالت زخاته عالقة في تلكم الأحياء القديمة والتي إن تغيرت ملامحها إلا أنَّ بعض الأمكنة شواهد الله في أرضه على خيرة الصحب والجيرة التي لم تُكرِّر نسختها الأيام.

الطبق الذي يتم توزيعه لم يكن طبقاً عادياً، وإنما يحمل معه لفيفا من المشاعر الطيبة المتبادلة التي تزيد من الروابط المتينة بينهم، لكلٍّ منا ذكرياته مع تلكم الأطباق. ذكريات لا تكاد تبارحنا كلما عرجنا إلى ذلكم الزمان الجميل. ترتسم في وجوهنا تارة ابتسامة جميلة، وتارة نتذكر رحلة التوزيع الشيقة والشاقة بنفس الوقت. وما كان يخفف المشوار هو التقاؤنا زميلاتنا بالصف منها نسعد بشوفتهم ومنها إذا ثمة واجب نذكر بعضنا به، ونحدد عليهم أن نلتقي للعب عقب العشاء.

المبهج إذا جارتنا الخالة (فلانة) كانوا طابخين الطبق المفضل لدينا، يكون لحامل الطبق النصيب الأكبر منه. إذا ما كان الجو حارًّا كان المشوار أخف علينا، إذا كانت الرطوبة شديدة نتقاعس ونوكل على الأصغر منا المهمة، يصل للبيت ونصف الشوربة قد انكفأ بملابسه، وجزء أخذت الأرض نصيبها منه، أو قام بتسليمه لبيت آخر غير المقصود، بينما نَهِم للخروج لبيت الجار(فلان) إلا ونتصادف بابنهم وهو يحمل طبقًا إلينا. نفسنا تحدثنا حينها الحمدلله خف علينا مشوار واحد، نقف وكل مننا بصحنه نتكلم عن المدرسة واللعب، وما يقطع حديثنا إلا صوت الوالدة -الله يحفظها- وهي تنادي "خذي معك صحن خالتك (فلانة)، أمس نسته وهي جاية معنا ترمس".

مواقف عدة لا يُمكن اختزالها، ما يعيد تذكرها إلا التقاؤنا بأبطال الطفولة وكل منا يسرد حكايته. لكلِّ جار طبق مميز ومعروف ويحظى بشعبية. يتحلَّق الأطفال على مائدتهم المخصصة لهم، بينما الكبار لهم مائدة بجوارهم. الطفل الذي أكمل صيامه لأيام عدة يترقى درجة ليشارك الكبار مائدتهم، بينما يتشجع الأخوة أن يكبروا لينالوا درجة. يستحثُّ الجد الأطفال للمسجد، بينما ينادي على الجدة أو أكبر البنات: "شوربة بيت فلان، خلوها على جنب، بشربها عقب التراويح"، وأحد الأولاد يعقب قائلاً: "لقيمات خالة (فلانة) بقوا لي منها".

وسط كل هذه التأكيدات، ارتسمت على الجدة ابتسامة قائلة: "توكلوا إنتوا على الله، "السماط" بيكون مكانه مفروش، ما بننقل شيء عن شيء".. عادة تبادل الأطباق لا تكاد بلد تخلو منها بدرجات متفاوتة، بقيت نفسها في أماكن بينما ظروف مختلفة أفقدتها بريقها.

الأجداد تمسَّكوا بها والأبناء، ما إن تصل إلى الأحفاد حتى يبدأ بريقها يخفت لظروف عدة. العادة ارتدت حلة جديدة بتجدد الأجيال كانت تقتصر على الأطفال، ثم أخذ المهمة عمال المنازل، إلا أنَّ الظروف المستجدة والاستثنائية لجائحة كورونا، جعلت الأطفال حبيسي أجهزتهم، ما إنْ يطلب منهم حمل صحن للجيران إلا ويمطرون مستمعهم بوابل من الحجج.

يكتفون بتصوير الأطباق وتوزيعها افتراضيًّا ويُكتفى بالنظر، أما تذوقها فكان لأجيال الصحون الذهبية نصيب الأسد منها.

تعليق عبر الفيس بوك