من يقتُل الحنش؟!

خالد بن الصافي الحريبي

لا يشغلُ بالَ أهلنا في محافظة ظفار هذه الأيام تساؤلٌ مثل قتل الحنش في ظل الأوضاع الحالية، وحتى لا يتبادر إلى أذهاننا أنَّ قتل الحنش له علاقة بأي إيذاء للحنش، أو أي مخلوق يستحسن أن نوضح المقصود منه.

فقتل الحنش عادة حسنة متوارثة، حافَظَ عليها أهلُ ظفار منذ قديم الزمن؛ تتمثل في تعاون ولقاء الأهل والأحباب والأصحاب، قُبيل شهر رمضان المبارك -أعاننا الله فيه على صالح الأعمال- لينتفعوا بالتفكُّر وتذكُّر حسنات التخلص من العادات السيئة، أو الحنش، وتبنِّي العادات الحسنة، لا سيما في الجانب الاقتصادي. ويصحب هذه العادة الحسنة تناول وجبة من خيرات الأرض حلالا طيبا. ومن عجائب الدهر أنَّ الجوائح كما أنَّها من أسباب هلاك أمم، إلا أنها كذلك فرصة العمر للأمم لـ"قتل حنشها" عبر الاستثمار الجريء في إطلاق قدرات الإنسان، وتمكينه من بناء عادات اقتصادية حسنة. لذا؛ من الحسن التطرُّق إلى ما هي العادات الحسنة التي تتيح لنا الظروف الحالية تبنيها؟ وما هي أفضل الممارسات في الاستثمار الجريء لإطلاق قدرات الإنسان؟

 

العادات الحسنة والتعافي من جائحة "كوفيد 19"

كما هو معلوم، أنَّ التدافع بين الإنسان والجوائح المتنوعة من سُنن الحياة، ودواؤها الحكمة والسياسة الحسنة التي تمكن الإنسان من قتل حنش صعوبة إدارة الأزمات والشعور بالعجز والسلبية. ويصعُب على المجتمعات حول العالم التحلي بالإيجابية في ظل هذه الظروف التي أصبح الأسهل فيها الاسترسال في وصف التحديات الصحية والاقتصادية والاجتماعية التي نواجهها، فمن التدافع العالمي على اللقاحات، إلى الركود الاقتصادي وغلاء المعيشة، إلى التباعد الجسدي وما يصحبه من تأثير في النفس البشرية التي تتُوق للتواصل مع من حولها. وعن تجربة، يمرُّ أصحاب المؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة بنقص في الأموال والثمرات، تفاقمه خطوات حسابية وتجارية متواضعة لم توفَّق في تحفيز أسباب رزق تمكِّن الإنسان المعوَّل عليه زيادة إنتاجيته ودفعه للرسوم في نفس الوقت، من عيش حياة كريمة مطمئنة. ومع الأخذ بعين الاعتبار وجوب التضحية في طلب العلا، يظل التساؤل: من يقتل حنش روح اليأس والسلبية الناتجة عن التعامل مع تبعات الجائحة ، ويسهم في خلق قصة نجاح تُلهم أجيال الحاضر والمستقبل؟

 

طلعت حرب وفكر الاستثمار الجريء في الابتكار الصناعي المحلي

إنَّ استلهامَ الشخصيات التاريخية ليس من باب الحنين الرومانسي إلى ماضٍ جميل، ولكن من باب أن التجارب الإنسانية تُثبت مرارا وتكرارا أنَّ من يقود صنع النهضات هم الملهمون والمفكرون ذوو الرؤى من رموز الإنسانية؛ الصبورين والقادرين على قتل أي حنش يُدخِل اليأس إلى روح المجتمع ويعيق تقدمه، والمتمكنين من تنفيذ خارطة طريق أفضل ممارسات النهضة المستدامة مهما كان حجم الجوائح التي نتدافع معها. ومن أهم رموز نهضة الأمة الإسلامية والعربية محمد طلعت حسن محمد حرب باشا، أو طلعت حرب ابن مصر المحروسة. ولد طلعت حرب في القاهرة، وأطلق اسمه على أحد أهم ميادينها، ونشأ في رحاب مسجد سيدنا الحسين في حي الجمالية وتعلم في الكُتّاب ودرس الحقوق، وأفتخرُ أنني كنت ممن تبعوا خطاه، وبدأ طلعت حرب حياته المهنية كأكاديمي ومترجم قانوني. وما أشبه اليوم بالبارحة إذ عاش طلعت حرب في ظروف تعافي العالم من جائحة الإنفلونزا الإسبانية-الأمريكية، وسيطرة مؤسسات رأس المال الدولي على كل مصادر أرزاق الأمة، وقناعة شعبية بأنه "مفيش فايدة" وهي عبارة قالها الزعيم المصري سعد زغلول؛ تعبيرا عن يأسه من تحسُّن الأوضاع. ولأن على قدر أهل العزم تأتي العزائم، فقد أسهم هذا المفكر الاقتصادي الفذ في بناء فكر متجدد يؤمن بثلاثة أسس: أولا أن البركة الحقيقية تكمُن في الاستثمار الجريء في رواد الصناعة المحلية؛ الذين هم أدرى بشعاب الفرص الكامنة كل في مجاله. ثانيا: أنَّ أساس عُمران أي مجتمع ينتج فكره بلغته الأم مع إشراك كل طاقات المجتمع والإثراء من خلفياتهم واختلافاتهم المتنوعة. ثالثا: الاستثمار الجريء في مشاريع مستدامة ومتكاملة مع بعضها تخلق فرص عمل وأعمالا معرفية وتعليمية وثقافية وفنية، وإسكانية، وصحية، وتصنيعية، وغذائية، وفي الطاقة والتعدين، والتنقل الجوي والبحري والبري، والغزل والنسيج، والتأمين والسياحة، والرياضة. وسبق فكره لخدمة الإنسانية والأمة عصر جامعة الدول العربية، فأسهم في تأسيس مشاريع خلال بضع سنوات تفوق ما حاولت الجامعة تأسيسه خلال 76 عاما؛ في السودان والسعودية والعراق وسوريا ولبنان...وغيرها. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: مشاريع صحية ومالية ونقل، تُيسِّر علينا حتى هذا اليوم زيارة الحرمين الشريفين. واستحق بذلك تكريما نادرا في العصر الحديث من ملوك وحكام مصر العسكريين والمدنيين في حياته وبعد وفاته - رحمه الله وجزاه عن الإنسانية ألف خير.

 

إطلاق قدرات المبتكر الصناعي المحلي

"فليذهب ألف طلعت حرب وليبقَ بنك مصر".. يُحكى أنَّ هذا كان رد طلعت حرب عندما اشترط عليه وزير مالية مصر الاستقالة بضغط من الاحتلال البريطاني في بدايات الحرب العالمية الثانية عام 1939، وذلك مقابل إنقاذ المؤسسة التي أفنى عمره في الإسهام في تأسيسها وهي: بنك مصر. وفي هذا عبرة لنا اليوم أن عُمران المجتمعات أكبر من حنش الحسابات غير الجريئة، وكثرة الكلام وعروض الشرائح الفارغة من الفكر، وشبكات المصالح الضيقة، وجلب الاستثمار بأساليب مستهلكة ومصطنعة ومتصنعة. فلا يوجد عائق بين مجتمع وتطلعاته ورؤاه أخطر من داء حنش اليأس من الحاضر؛ لأنه يظلم الماضي ويغيب المستقبل. ولأنَّ من لطف الله بعباده أن لكل داء دواء، فأكاد أجزم بأن دواء خارطة طريق تعافينا مما قد يغرينا من يأس يكمن في إيماننا بأن لا استثمار أجدى من بذل الغالي والنفيس للاستثمار في إطلاق قدرات الإنسان الصانع المحلي، لأنه إذا اطمأن أنتج مجتمعا جاذبا بصورة مستدامة لكل أسباب الرزق الطيب والاستثمارات المستدامة. أسأل الله عز وجل أن يُعِيننا على قتل حنشنا، ويربط على قلوبنا، وينشر لنا من رحمته ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا.