"لو كل من جاء نجر"

خالد بن الصافي الحريبي

يقول راعي المثل العُماني: "لو كُل من جاء نجر ما بقى بالوادي شجر"، وهي بالمناسبة أيضا مطلع أغنية شعبية من فن البرعة الشجي المسجَّل في "اليونسكو"، ويُمارَس بمحافظة ظفار.

تذكرتُ هذا المثل وأنا أتأمَّل كل الجهود المباركة لتحقيق التوازن بين جانبين؛ هما: جلب استثمارات التنويع الاقتصادي؛ التي منها الحميدة التي تغرس الخير والشجر، والخبيثة التي لا تبقي لا شجر ولا حجر وتُضر بالبشر، وجانب جهود التعافي والتعايش مع الآثار الصحية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية لجائحة "كوفيد 19". فمع تعايشنا مع الجائحة وتحوُّراتها وإغلاقاتها، نشهد بأعيُننا تأثيراتها على حياتنا وأعمالنا وعلاقاتنا وعباداتنا ومأكلنا ومشربنا وحركتنا. كما نشهد أهمية التركيز على الاستثمارات الحميدة المستدامة، وأن نغرس اليوم ما يضمَن حصاد حياة كريمة لنا ولأجيالنا المقبلة، عبر تبني مبادئ الاستدامه، فبدون الإيمان بمبادئ الاستدامة سيستمرُّ الإنسان اليوم في استنزاف النِّعم التي توفِّر له الهواء النقي والغذاء الصحي، وقطع 15 مليار شجرة سنويًّا، وتحويل نصف الأراضي الخصبة القابلة للزراعة لأعراض صناعية، واستهلاك 30 بالمئة من المخزون السمكي. ويُعرِّف الخبراء الاستدامة بأنَّها إيمان الإنسان قولاً وعملاً برسالة الحِفاظ على أعمدة الحياة المتكاملة الثلاثة: الإنسان والأرض والاقتصاد. فما هي أفضل الممارسات الحالية للاستدامة في هذه الأعمدة الثلاثه؟ وكيف يُمكن أن نُعد خارطة طريق للاستثمار في مستقبلٍ أكثر استدامة؟

 

الأرض:

يُعتبر التعاون في مجال التغير المُناخي أحد أهم أولويات العالم في هذا العقد؛ نظراً لتحديات التأثيرات الكبيرة للأنشطة الإنسانية على الأرض ككل. ويتَّفق العُلماء المختصون في مجال البيئة أنَّه ما لم تُخفض درجة حرارة الأرض بـ1.5 درجة مئوية؛ فلن تبقى هناك أرض وطبيعة نُسلمها للأجيال خلال العقود المُقبلة. وهذه إحدى أولويات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ إذ دعا بايدن 40 من قادة العالم لقمة المناخ الافتراضية للاقتصاديات التي تلعب دورا رئيسًا في التغير المناخي، تُعقد خلال الفترة 22-23 أبريل المقبل. وستناقش هذه القمة أفضل الممارسات البيئية في مجال خلق فرص العمل وتطوير التقنيات المتقدمة وصون الطبيعة حول العالم. ولهذا الغرض، دعا الرئيس الأمريكي قادة الدول المعنية للاتفاق على الحد من الانبعاثات الضارة، وتمويل المشاريع البيئية عبر الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإحداث نقلة نوعية في اقتصاد الطاقة النظيفة بصورة تخدم كافة شرائح المجتمع، وتسخير التقنيات المتقدمة للمساهمة في خلق صناعات مستدامة، وتحديد مؤشرات أداء رئيسية للوصول لمستوى صفر من الانبعاثات الضارة بحلول العام 2050. ويُمثل قادة الدول المدعوة: أمريكا والسعودية والإمارات وأنتيغوا والأرجنتين وأستراليا وبنجلاديش وبوتان والبرازيل وكندا وتشيلي والصين وكولومبيا والكونغو والدنمارك وفرنسا وجابون وألمانيا والهند وإندونيسيا وإسرائيل وإيطاليا وجامايكا واليابان وكينيا وجزر مارشال والمكسيك ونيوزيلندا ونيجيريا والنرويج وبولندا وكوريا وروسيا وسنغافورة وجنوب إفريقيا وإسبانيا وتركيا والمملكة المتحدة وفيتنام.. فهل ستستطيع هذه القمة إصلاح ما أفسده الدهر في مجال التغير المناخي؟

 

الاقتصاد:

إنَّ الاهتمامَ بالاستدامة والبيئة لا يعني عدم الأخذ بأسباب التقدم الصناعي المُنتج، لكنه يدعو فقط إلى تجنب الاستثمارات التي "لا تُبقي في الوادي شجر"؛ فالثورات الصناعية المتعاقبة منذ اختراع الإنسان للأدوات التي تُعينه في معيشته، إلي تسخيره لطاقة البخار، ودعمها -لاحقا- بطاقة الكهرباء، ثم التطور الإلكتروني، وصولاً إلى التقنيات الناشئة الحالية التي تدمج بين الذكاء الإنساني وذكاء الآلة، تُسهم بصورة مباشرة وغير مباشرة في حياة 7 مليارات إنسان حول العالم. لكن كما هي سُنّة الحياة فإن تدافع القوى العُظمى التي غَلبت على العالم خلال العُقود الماضيه وصل إلى مرحلة تنافسٍ محموم. ولا أدل على هذا التنافس المحموم في كل المجالات من الحروب على اللقاحات إلى التنافس الشريف وغير الشريف في جلب الاستثمارات الأجنبية. ومن أهم تأثيرات الجائحة على التنافس الاقتصادي العالمي: فتحه شهية القوى العظمى الغربية الصناعية مرة أخرى لاستثمارات تستنزف المواد الخام من الدول الإفريقية والأمريكية الجنوبية؛ وبالطبع من عالمنا العربي. كما فتح شهية الصين عبر مبادرة الطريق والحزام للاستثمار في الدول النامية بمبدأ القمار والميسر الذي يستولي فيه اللاعب الدائن على كل يقدر عليه من موارد طبيعية لدى المدين، كما حصل للاستثمارات الصينية في موانئ ومناجم سريلانكا وإفريقيا. كما فتح شهية صناديق استثمارية خليجية لشراء كل ما يمكن شراؤه بالمال حول العالم، كما نرى في عالم الرياضة. ومن الطبيعي في خضم تدافع هذه القوى الاقتصادية أن يعتبر القابض على الحديث عن الاقتصاد الأخضر واقتصاد المحيطات كالقابض على الجمر، وأن يُعتبر الاهتمام بالبيئة من باب الترف والمثالية. لكن الحقيقة أن الاستثمارات التي تستنزف المواد الخام على طريقة الغرب، واستثمارات المقامرة بالموارد الطبيعية على طريقة الصين، والاستثمارات التي لا تركز إلا على المال هي انتحار جماعي ومعول هدم للإنسانية، ولو بعد حين.

 

الإنسان:

إنَّ الاعترافَ بالمشكلة أوَّل خطوة لحلها؛ لذا فإنَّ علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن السلطنة من الدول السبّاقة في إيلاء الاستدامة أولوية منذ ثمانينيات القرن الماضي، لكنها اليوم تُعتبر من الدول التي لا تشهد تقدماً ملحوظاً في الأداء البيئي. ويُشكل ذلك تحدياً لمؤشر الأداء البيئي، وهو أحد المؤشرات الرئيسية في رؤية "عُمان 2040"، حيث تراجع مستوى التمثيل الإستراتيجي لملف البيئة والاستدامة والمناخ وتواصل زيادة الانبعاثات الناتجة عن الأنشطة الصناعية، وتواصل الممارسات الزراعية الضارة بالأراضي الخصبة، وتواصل ممارسات الصيد الجائر.

وفي رأيي يكمُن الحل في إعادة الاعتبار للاستثمار في الطبيعة في 3 مسارات؛ أولها: في المسار الإستراتيجي، من خلال تحليل البيانات ذات الصلة بالاستثمار في الطبيعة لصُناع القرار، بصورة تُسهم في وضع خارطة طريق تحقق التوازن بين الإنسان والأرض والاقتصاد. وعلى سبيل المثال: من الخبرات الوطنية التي يُشار إليها البنان على مستوى الأمم المتحدة في مجال الاستدامة والطاقة واستشراف المستقبل سعادة د. طلال العولقي قنصل النرويج وخبير طاقة المستقبل، ود. مهدي جعفر الخبير البيئي، ود. لمياء حارب الخروصي خبيرة أمن الطاقة، ود. عبدالسلام أمبوسعيدي المختص بدراسات المستقبل. وثاني الحلول، في مسار واقع اليوم: تمكين هيئة البيئة بكافة الإمكانيات البشرية والمادية التي تتناسب مع مسؤولياتها الجسيمة ذات الصلة بتحسين أداء السلطنة في مؤشر الأداء البيئي. أما المسار الثالث، فيتمثل في: الاستثمار في المستقبل، عبر تخصيص برنامج استثماري تابع لجهاز الاستثمار العماني، يستثمر في المشاريع الناشئة في مجال الاقتصاد الأخضر، بالشراكة مع جهات حكومية كهيئة البيئة ومركز "موارد" الرائد التابع لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، وهيئة الخدمات العامة مع شركات حكومية كشركتي نماء وبيئة، بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني الرئيس كجمعية البيئة.

وأخيراً وليس آخرًا.. إنَّ الإنسان خليفة الله -عزّ وجل- الذي حمل رسالة أن لا يكون في وجوده ضرر ولا ضرار، في حاضره أو في مستقبل أجياله أو في الطبيعة، وأدعو الله أن يمكننا من الإيمان بالاستدامة قولاً وعملاً، وأن نكون نحن وأجيال المستقبل ممن قال فيهم الحبيب المصطفى صلي الله عليه وسلم: "ما من مسلمٍ يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم.