تفكيك العالم

حاتم الطائي

 

دور تخريبي هائل لوسائل التواصل الاجتماعي توازيًا مع صعود الشعبوية

الفوضى العالمية ناتجة عن تغييب الوعي والكذب الممنهج

الواقع يفرض علينا رفع مستوى الوعي المجتمعي في مواجهة الهجمات التفكيكية

نظريَّاتٌ عِدَّة وضعها مفكرون وباحثون من مشارق الأرض ومغاربها حول قضية تفكيك العالم، ومآلات ما يجري حولنا من متغيرات جذرية وتحولات في مسارات الحضارة الإنسانية، وحالة التشظي المدمِّر التي يتعرض لها العالم.. وهذه النظريات عادةً ما تربط قضية التفكيك بما يشهده العالم من حروب أو ظهور أفكار واندثار غيرها، إلا أنَّ أبرز ما يدفعنا للحديث عن هذه القضية مُستوى التسارع المرعب في "النظرية التفكيكية"، ويتجلَّى ذلك في تطبيقاتها وإرهاصاتها في عالم السياسة والاقتصاد، في ظل الدور التخريبي لوسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات الرقمية الساعية للتشكيك في كل شيء من حولنا، ووأد الثقة في المؤسسات والأفراد، بالتوازي مع صعود الشعبوية بشتى مظاهرها وتمرداتها الفوضوية.

الأمرُ يتطلَّب ابتداءً قراءة الواقع من حولنا قراءة متأنية عميقة، لا تنظُر فقط في ظواهر الأشياء؛ بل في جوهرها وكينونتها، وهذه القراءة ستكشف لنا أبعادًا غير مرئية إذا ما تفحَّصنا الظرفيات المحيطة بالظواهر الدالة على تفكك العالم وانحلاله، بالمعنى التركيبي وليس الأخلاقي. فالتفكيك والانحلال متلازمة حضارية تتعرض لها الإنسانية مع بلوغ أي حضارة لذروتها؛ عندما تفقد هذه الحضارة مقومات العيش والبقاء، في ظل تسارع وتيرة الانهيار، الذي عادةً ما يكون على المستويات كافة: اقتصاديًّا، وسياسيًّا، وثقافيًّا، واجتماعيًّا، وأخلاقيًّا.

وعالم اليوم -ومنذ نحو سنوات قد لا تتجاوز 10 سنوات- دخل في واحدة من مراحل التفكك والانهيار، بدأتْ (أولًا) بتنامي انتشار الإنترنت وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، والتي خلقت حالة من السيولة المعلوماتية حدَّ الإغراق، تحولت فيما بعد لأداة حربية تستخدمها الدول والمنظمات لهدم الدول؛ تزامن معها (ثانيًا) شراسة رأسمالية غير مسبوقة، تحوَّل فيها الإنسان إلى سلعة تباع وتُشترى تحت مُسمَّيات عدة، وبات "قانونيًّا" شراء إنسان بملايين الدولارات بموجب "عقود احتراف"، علاوة على (ثالثًا) رسوخ الأفكار الشعبوية في عدد من المجتمعات، خاصة الغربية منها؛ فبدأت الدعوات الانفصالية تتزايد، والتحريض على اقتحام المؤسسات يتحقق على الأرض، وهلُمَّ جرًّا.

ولقد كان لظهور الإنترنت وتحويل العالم إلى قرية واحدة صغيرة، إيجابيات وسلبيات؛ حيث بإمكان مستخدم الشبكة العنكبوتية الوصول إلى ما يشاء من معلومات أو أفكار دون قيود أو شروط، بل بإمكانه إدارة أعماله في أنحاء العالم من غرفة نومه في قرية صغيرة ببلدة غير معروفة في دولة ما. وهذا من مميزات التقنية التي ساعدت على تقدم الإنسانية، لكن هذا التقدم أوجد خصائص سلبية ومدمرة للغاية، باتت تنخر في عظم المنظومة العالمية، وتُضعف من تماسُكها. والبداية كانت مع وسائل التواصل الاجتماعي؛ سواء الجيل الأول منها -مثل: غرف الدردشة وبرامج "ماسنجر"...وغيرها- أو الجيل الثاني منها كفيسبوك وتويتر ويوتيوب...إلخ. كلُّ هذه الوسائل التي يستفحل حجمُها لحظة تلو الأخرى، تتسبَّب بصورة مباشرة وغير مباشرة في عملية تفكيك العالم؛ فمنذ زيادة عدد مستخدمي هذه الوسائل لأرقام مليارية تحولت إلى عملاق ينمو حجمه وقدرته على إدارة العالم، بفضل الذكاء الاصطناعي الذي لم يعد فقط تقنية متطورة لخدمة البشرية، بل أيضا سلاحا مُشهرا في وجه الجميع، بمن فيهم مبتكروه!

إذن؛ تحوَّلت وسائل التواصل الاجتماعي -في معظمها- إلى آلات حربية تهدم ولا تبني، ورسخت من المعرفة السطحية، وعززت الجهل لدى قطاعات عريضة من المستخدمين، بل -وهذا هو الأخطر- زلزلت الثقة في المؤسسات الرسمية، وتسبَّبت في تجذر الشائعات والأخبار المضللة؛ فلو رصدنا عدد الشائعات التي يطلقها مستخدمو التواصل الاجتماعي حول العالم، سنجد أنها بالملايين يوميًّا، وهذا رقم مرعب ومخيف لكل ذي عقل. تسبَّبتْ هذه الوسائل في صناعة الجهل المنظَّم والأكاذيب الممنهجة والتضليل المدروس بعناية، ولك أنْ تنظُر إلى أيِّ قضية حتى ولو كانتْ تعطُّل مركبة في شارع داخلي، ستُدرك وقتها حجم التضليل المعلوماتي الذي يُمارَس عن عَمْد أو دون قَصْد، ولنا في انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي نموذج صارخ لما يتسبب فيه التضليل المعلوماتي والأكاذيب الممنهجة من خسائر فادحة؛ فقضية "بريكست" وُلدت من رحم الأكاذيب، ونشأت في بيئة يملؤها الزيف والضلال المبين، وتضخَّمت في محيط يرتكز على صناعة الجهل والتسطيح، فكانت النتيجة خسائر بمليارات الدولارات.

المُسبِّب الثاني الذي يعجل بتفكيك العالم، ما نشهده حاليًا من رأسمالية متوحشة تتجاوز حدود الاعتبارات الإنسانية، لتكُون المادة وأرباح الشركات فقط هي المعيار والحكم، وتأكَّدت هذه الوحشية في أزمة جائحة كورونا؛ فمن المؤسف أنَّ استفحَال الأزمة وتفاقمها، وما حصدته من أرواح الملايين من مصابين وضحايا، ناجم عن غياب التنسيق العالمي، وانعدام الرؤية الموحَّدة للأزمة، وتلى ذلك تطبيق عملي للمنظومة الرأسمالية فيما يتعلق بتوزيع اللقاحات، بل وحرب اللقاحات التي طَفَحت على السطح، وكشفت عن مدى لا إنسانية الدول الغنية والكبرى؛ فالأمر بعيد كل البعد عن الأخلاقيات، وعن عدالة التوزيع، أو حتى إتاحة الفرصة لمشاركة الدول النامية في تصنيع اللقاح، بزعم حماية الملكية الفكرية!

المسبِّب الثالث لتفكيك العالم يتمثَّل في رسوخ الأفكار الشعبوية، وحركات اليمين المتطرف حول العالم، خاصة في أوروبا وأمريكا، وهي الأفكار التي أتتْ برئيس مُثير للجدل مثل دونالد ترامب، والحال لا تختلف في بريطانيا أو إيطاليا أو حتى البرازيل!! فكلهم رؤساء شعبويون صَعَدوا إلى السلطة بفضل خطاب شعبوي متطرِّف كارِه للآخر ومُعَادٍ له، وكانت النتيجة أنَّ مجموعات من الدهماء احتلت لأول مرة مبنى الكابيتول في الكونجرس الأمريكي، ونفَّذت أعمالًا هي أقرب إلى الإرهاب، وصنعتْ الخوف في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، وكادت تمنع تنصيب الرئيس، في سابقة تاريخية!!

ختامًا.. هذا الواقع -بكلِّ ما فيه من تحديات ومخاطر- يفرضُ على كل فرد في مجتمعنا أنْ يكون أكثر وعيا بما يحدث حوله، وأن يقرأ الواقع قراءة صحيحة، قائمة على فكر عقلاني متجرِّد من الانحيازات، وأن يُدرك مدى تأثير تداعيات النظرية التفكيكية للعالم والمجتمعات علينا.. ينبغي أنْ نعمل على ضمان النجاة من تلك المحاولات الشريرة التي تستهدف أمن المجتمعات، ومُقدرات الأوطان، ورمُوزه وقياداته؛ فالتماسك المجتمعي والوقوف صفًّا واحدًا في وجه العواصف العاتية، والزلازل الاقتصادية والسياسية والصحية، وكذلك الحرص على المساهمة في بناء الوطن، ودعم السياسات التي تستهدف حماية المجتمع والاقتصاد من التبعات الخطيرة للمتغيرات الجوهرية التي تحدُث من حولنا، كلُّ ذلك من شأنه أن يساعدنا على تقليص درجة تأثرنا بهذا التفكيك والخروج بأقل الخسائر.