السياسة العمانية ومبدأ "الصلح خير"

 

د. إسماعيل بن صالح الأغبري

إذا استجمعت قوى قواها في مشاحنات وملاسنات واستجلبت قدراتها لتراشق إعلامي أو رشق عسكري، وأمطرت سماء العالم الإسلامي قنابل وصواريخ وقاذفات وراجمات وطائرات، فإن ثمة صوتا هادئا حكيما عاقلا يلوح في سماء الغيوم الملبدة، وحركة دؤوبة نشطة تسري في وبين جنبات مختلفة تبذلها السياسة العمانية لحل المعضلات وجبر الكسيرات من كثير من المشكلات ذات الدوافع السياسية والجغرافية.

إذا كان محللون يرون سقوط دول الجامعة العربية في القعر والهاوية، ودخول تلك الدول في أنفاق مظلمة، كل منها يحفرها لتقع فيها أخرى، فإن المراقبين يرون السياسة العمانية منفردة عن الجمع، وهي بذلك تمثل الجمع لأن منهجها "فأصلحوا بين أخويكم".

الأفعال المبنية للمجهول وللمعلوم ذات التشاؤم كثيرة بين الدول العربية، وهي من صنائع الدول العربية؛ مثل: (قُتل) و(جُرح) و(أُصيب) و(احترق)، إلا من عُمان فإنَّ وكالات الأنباء والمحللين السياسيين والعسكريين ينأوون بعُمان أو بمنهجها السياسي عن تلك المعارك، ويصنفون السياسة العمانية ضمن أفعال "سهلت" السلطنة إطلاق سراح كذا، و"توسطت" السلطنة من أجل حل مشكلة كذا، و"بذلت" سلطنة عُمان جهودا دبلوماسية للتقريب بين دولة كذا وكذا، و"تمكنت" السلطنة من الإفراج عن كذا وكذا، و"نجحت" سلطنة عمان في الوساطة بين دولة كذا وكذا، وهي بذلك تفعل مبدأ "والصلح خير"، وتضع في قاموس منهجها السياسي والدبلوماسي: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"؛ فهي تستقصي كل الطرق الممكنة للتقريب بين المتنافرين ولا تغذي الصراع بينهم، بل تتعالى على كل جرح فإن بلغت مرادها وهو وقف نزيف الدم والتراشق الإعلامي، فذلك ما كنا نبغي، وإلا لزم إعلامها وسطية التعاطي ومنهجية العرض والبعد عن إصدار أحكام على أطراف النزاع؛ فذلك من باب "فليقل خيرا أو ليصمت".

قطيعة بين أشقاء في عالم العرب والمسلمين، وعُمان لا يعرف منهجها السياسي والدبلوماسي إلا همزات الوصل، وتلاسن إعلامي عبر قنوات يتم توليدها لتصفية حسابات فور بدء مشكلات بينية، وسلطنة عمان ليست من ذلك في شيء، أي لا تصب الزيت على النار، ولا تزيد النار  حطبا.

استدعاء لسفراء بين دول في العالم الإسلامي، وسحب لسفراء ثم قطع لعلاقات، والمنهج السياسي للسلطنة لا يرد في قاموسه "سحب" أو "استدعاء" أو "قطع"، حتى في أحلك الظروف وأشدها وأقساها وأصعبها؛ فعمان تقوم بإنشاء الجسور ولا تعرف سياستها إنشاء الجدار؛ فالجدران فصل والجسور وصل، والسلطنة مع الوصال لا الفصال.

اتَّسع الخَرق على الراتق بين الدول العربية، وما يندمل جرح حتى يثور جرح آخر أكثر نزيفا، وتبقى السلطنة البلسم الشافي، والوصفة الطبية المعالجة لذلك النزيف؛ إما بمبادرات منها بالتنسيق مع دول إقليمية وأممية، أو بوساطات مكوكية خالية من الصَّخب بعيدة عن الضجيج؛ إذ ليس هدفها تسليط الإعلام والدعاية، ولكن غايتها إنهاء الحروب، ووقف النزاعات، وقصدها أمن العالمين وعدم استنزاف خيرات الأمم والشعوب.

تسمعُ عن اتفاقيات بين دول إقليمية صاعدة لها ماض عريق وتاريخ ضارب بجذوره في عمقه وبين قوى كبرى، فتتمكن من التقريب بينهما فتخدم بتلك الخطوة دول الخليج والعالم أجمع، كما فعلت في الاتفاق النووي بين إيران وأمريكا؛ فقد انكفأ شبح الحرب، وشعرت دول الخليج بمزيد من الاستقرار، وباتت السفن تعبر مضيق هرمز، وهي تحمل الذهب الأسود الخليجي المنبع بأريحية.

والمنهج السياسي والدبلوماسي العماني ينزع إلى رأب الصدع بين الدول المختلفة كما وقع بين دول خليجية، وينزع إلى ردم الهوة بين الأطراف المتنازعة في الدولة الواحدة بدل التدخل السلبي الإعلامي والعسكري كما هو الشأن في أزمة اليمن.

الأمين العام السابق للأمم المتحدة والذي زار السلطنة، أشاد بنظافة السياسة العمانية ودورها في التقريب بين الأطراف الداخلية والخارجية في الشأن اليمني، وكذلك المبعوث الأممي السابق لليمن، كما أشاد الحاليون بالمنهج الدبلوماسي العماني.

الأطراف اليمنية ذاتها، ومع اختلافها وصراعها، لكنها تُشيد بالمنهج الدبلوماسي والسياسي العماني؛ فهي تعمل على "التسهيلات" للجميع ومع الجميع، ولا أدلَّ على ذلك من تمكنها من إقناع الأطراف بضرورة السماح لـ250 يمنيا عالقين بعد علاجهم من العودة لليمن، كما تمكنت من إقناع الأطراف بالإفراج عن بعض الجنود غير اليمنيين، وكذلك تمَّ الإفراج عن رفات أمريكي؛ فالجامع بين هؤلاء الإنسانية، والسلطنة تتحرك من منطلق أنَّ حياة الإنسان يجب احترامها وحقوقها لازم صيانتها، وعدم التدخل في شأن الدول خارطة طريق لا يصح الحيدة عنها.

تبارك السلطنة كل مسعى يُبذل من أجل وقف نزيف الدم الذي بلغ ست سنوات عجاف، محرقات للأخضر واليابس، بل وتُسهم في حقن الدماء؛ فهي العمود الفقري والركن الأعظم لكل مقاربة؛ لذا يتوجه الجميع لشكر سلطنة عمان مقرونا مع شكر الأمم المتحدة.

طال أمد الصراع باليمن، واكتوت بناره أجيال، ولم تزل الحرب عليه أو بين بنيه تحصد أرواحا بريئة، وتراثه في خطر بسببها، إضافة إلى ما يعصف بها من أوبئة وأسقام وأوجاع عز دواؤها لأسباب مختلفة.

إذا كان المنهج العماني رطبا وداعما لحل كل إشكال، وإن نأى عنها موقع جغرافي؛ فمن باب أولى أن تكون داعمة لكل حراك من أجل حلحلة الأمور الواقعة بين أشقاء قريبين منها جغرافيا، ويجمعهما تاريخ مشترك وعلاقات متجذرة.

الحرب في اليمن بلغ مداها حتى الآن ست سنوات، وفاقت مدتها مدة حروب عالمية، وفاقت في مدتها مدة حروب شُنت على لبنان وغزة، كما بلغت خسائرها عشرات المليارت، إضافة لما تتركه من ضغائن في النفوس وأحقاد متبادلة، ونشأة جيل لم يسمع إلا هدير الطائرات، ودك المدافع وصوت الرصاص.

عماننا، أُذُن خير وداعية إليه، ومباركة لكل خطوة ترسخ العيش المشترك والتفاهم بين الأمم والشعوب، ولا أدل على ذلك من إعلان الجمهورية الموريتانية عن شكرها لدور السلطنة الإيجابي في عودة العلاقات بينها وبين دولة قطر، وهذا يذكرنا بما كان لها من دور في عودة العلاقات العربية مع مصر على إثر قطيعة قامت بها الدول العربية ضد مصر بسبب اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، بينما احتفظت السلطنة بعلاقاتها مع مصر؛ فرأت الدول العربية بعد سنين صواب الموقف العماني؛ فأعادت العلاقات مع مصر رغم بقاء العلاقات بين مصر وإسرائيل ورفرفة علم إسرائيل في القاهرة، ورفرفة علم مصر في تل أبيب، ورغم بقاء اتفاقية كامب ديفيد؛ بل تطوَّر الأمر إلى توسع الدول العربية في إقامة العلاقات مع إسرائيل، وهو ما كانت تُنكره من قبل على مصر، وشنت بعض صحف العرب حملة شعواء على السلطنة لعدم قطعها العلاقات مع مصر.

عُماننا ليست وصيَّة على دولة من الدول، ولا وكيلة عن غيرها، ولا تُملي سياستها على أقرانها من الدول، وإنما سياستها مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول.