من مواقفي المريرة

عبدالله الفارسي

هناك مواقف خفيفة لذيذة ماتعة رائعة، تسكن ذاكرتك ولا تغادرها، تظل لذتها تتسلل في حلقك، وتعيش في لسانك، كما أنَّ هناك مواقف سخيفة مُرَّة ومريرة لا تختفي من ذاكرتك، ولا تنمحي نكهتها البشعة من حلقك مهما غسلت فمك بالماء، ومهما عطَّرته بالنعناع والريحان.

بطبيعتي، اعتدتُ على شراء المستعمل، أحب كل الأشياء المستعملة، أنجذب إليها، أنسجم معها، تقبلُها نفسي، وتستسيغها روحي، ليس الأدوات والآلات والمعدات فحسب حتى القلوب والعقول والأرواح أعشقها مستخدمة مستعملة.. أحب القلوب المنهكة، والعقول المرهقة، والأرواح القديمة المستهلكة. أحب الناس كبار الروح، عميقي الخبرة.. معقدي الأفكار.. كثيفي الأحزان.

لم أشترِ الجديد بكثرة مفرطة في حياتي باستثناء ملابسي وأدوات مطبخي، لم اشترِ سيارة جديدة، ولم أقتنِ هاتفا جديدا، ولم أبتع ساعة جديدة، أدوات منزلي أغلبها مستعملة، كل سياراتي الهزيلة خلال الثلاثين عاما الماضية اشتريتها مستعملة من الشوارع أو عن طريق الإنترنت، وكل هواتفي الرخيصة اقتنيتها من محلات بيع الهواتف المستعملة أو من خلال الإنترنت أيضا.

أنا رجل لا تلمَع عيني بالجديد ولا يرقص قلبي للحديث، ولا تلهث روحي للمستحدث والصقيل، ولا تستأنس نفسي باللأمع الأنيق؛ لذلك علاقتي بمنصات البيع الإلكترونية مثل "أولكس" و"السوق المفتوح" علاقة قوية ومتينة.

ذات نهار، قلتُ لنفسي: لماذا لا أريح أم أولادي تلك المسكينة الصابرة التي تطبخ وتغسل وتكنس وتعلِّم وتربِّي وتصرف وتصرخ، رغم أنني على خلاف وتناطح دائم مع زوجتي في الأفكار، إلا أنني دائما أرفع لها القبعة وأعترف لها بالشكر، وأقلدها الثناء، وأتوجها بالعرفان، جزاء صبرها على مزاجي واحتمالها لشطحاتي وهلوساتي؛ فلولاها لا أعرف إلى أين سيحملني التيار، ولولاها لربما انكسر شراعي وغرق قاربي في بحار ضحلة. قُلت في نفسي لماذا لا أشتري لها "غلاية صحون" كهربائية، لتريح يديها من سائل التنظيف، وتتخلص أصابعها من خشونة ألياف الشطف والغسيل.

فرجعت إلى صديقيْ الحميمين "أولكس" و"السوق المفتوح"، وتصفحت المعروض من الغلايات المستعملة.

ووجدت ضالتي بسرعة، غلاية ألمانية مستعملة استعمالا بسيطا وبسعر مغر يتناسب وحجم محفظتي الصغيرة.

اتصلتُ بصاحب الرقم، ففاجأني صوت نسائي رخيم، صوت بارد هادئ، رقيق، مكسو بالدلع مغلف بالليونة، مخلوط بالميوعة، فسال لعابي لرقة الصوت وميوعته، أعطتني العنوان وأرسلت لي الموقع، انطلقت من مدينتي الميتة إلى مسقط العامرة الحية الصاخبة الفارهة الباذخة، فتحت البرنامج "الجوجلي"، وتبعته إلى حيث وجهني، أدخلني إلى منطقة راقية جدا، ثم إلى مجمع سكني فاخر، أمامه بوابة دخول حديدية ممنوع المرور منها إلا بتصريح من صاحب الشقة.. فاتصلت بصاحبة الصوت الرقيق، والنغمة المائعة لتأمر "الحراس" بأن يفتحوا لي البوابة ويسمحوا لي بالمرور.

بعد دقيقتين فتحت البوابة، دخلت بسيارتي المهلهلة، وعيوني مبحلقة، أدهشني المبنى وضخامته، وبهرني تنظيمه وحجمه ومساحته، فرنت الأسئلة الحارقة في رأسي وقرعت طبولها في صدري: لمن هذا المجمع الشاسع؟ لمن هذا المكان الواسع؟ أيُّ رجل ضخم عظيم يملك هذه الأطقم الأسمنتية اللامعة؟ لمن هذه الحصون الأنيقة الحصينة؟ أي ثري من أثريائنا يملك كل هذا الثراء ونحن نتقلب في البؤس والفقر والشقاء؟!

بحلقت عيني كمتشرد عجوز ألقي به فجأة في هذا المكان الفسيح، فاقتحمه الخرس وصفعه الوجوم فنسي اسمه وعمره وأهله وقبيلته! بحثت عن مدخل البناية الفارهة، عثرت على مدخلها، أوقفت سيارتي المتهالكة في مواقف ظليلة، وتوجهت إلى المصعد الزجاجي الأنيق وبه انطلقت إلى الطابق الرابع؛ حيث صاحبة الصوت الرقيق، وصلت إلى رقم الشقة وقرعت الجرس، فتح الباب: صدمني المنظر صدمة ثقيلة، كنت أتوقع أن تقابلني سيدة رقيقة باذخة بالأنوثة فارهة بالنعومة مشعَّة بالجمال، هاطلة بالدلال، ينسدل شعرها الحريري إلى تحت هضبتها الخلفية القطنية اللينة، لكنَّني فُوجئت بجحشٍ كبير طوله طول الباب، وعليه شعر طويل ملقى على كتفه، ويضع حلقتين في أذنه، وكل أصابعه مليئة بالخواتم، ويضع كحلا في عينيه كعاهرة متمرِّسة.

تسمَّرتُ في مكاني كتمثال من حجر، وتيبَّس لساني فاستحال إلى قطعة من ورق، فسمعته يقول لي بصوت أنثوي: "تعال، تفضل، أهلا بك"، إنه نفس الصوت الناعم الذي سمعته من قبل، إذن الأنثى التي ظننتها أنثى ليست أنثى، وإنما هو رجل متأنث متنعم مترقق.

اضطررتُ لأن أتمالك نفسي، وأتحكم في رباطة جأشي، فربطتُ جهازي العصبي بحبل متين حتى لا ينفلت مني، وارتكب حماقة فأصفع أو أبصق في وجه هذا المخلوق الكريه الذي يتغنج أمامي.

دخلت الشقة، وكانت هناك مفاجأتان في انتظاري؛ كان هناك اثنان من أمثاله، جحشين بأقراط وسلاسل ذهبية ومسحايق ملطخة في الخدود والشفاه، يجلسان في صالة الشقة، ويمضغان اللبان ويلعبان الشطرنج.

لكن ليس هذا ما أدهشني؛ فمثل هذا الحثالة حتمًا لن تجد معه في بيته تشي جيفارا أو نيلسون مانديلا أو مالكوم إكس أو الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي أو أحمد الجعبري أو يحيى عياش أو مروان البرغوثي أو عبدالله البردوني أو صافي الجمعاني، وإنما سيكون معه أمثاله وأشكاله واشباهه من زبالات الأرض وقماماتها.

الذي أدهشني بعنف وخبل هو الشقة نفسها، كانت شقة عجيبة لم أرَ مثلها في حياتي: تصميم راق أنيق، ورخام عالي الجودة والجمال، وثريات باهرة، ومرايا عاكسة، وأجهزة كهربائية من ماركات ألمانية عتيدة، وأثاث يخلب الألباب ويدغدغ الصدور. كل ذلك، ومعها أصنام هندوسية صغيرة في كل أركان الشقة، وصور ساكن الشقة مُثبَّتة بأوضاع مايعة فاجرة بجانب كل صنم.. منظر أصاب ذهني بالسؤال والحيرة وطعن رأسي بالصداع.

لم أعرف كيف أتعامل مع هذا الموقف، هل أضحك أم أتقيَّأ؟ أصابني الحصر فطلبت أن أدخل الحمام، فدخلته، وجلست في الحمام التقطُ لنفسي بعض الصور؛ لأنني حتما لن أدخل حماما كهذا مستقبلا، ولن تمنحني الحياة فرصة أخرى لإراحة مثانتي والتخلص من مياهي المنحبسة في مكان أفضل من هذا المكان.

خرجتُ من الحمام الفاخر إلى الصالة، فلاحظ الساقطان الآخران انبهاري بالشقة، وقرفي منهما في ذات اللحظة، فتجاهلاني، فتعجلت بإنهاء الموضوع الذي جئت من أجله قبل أن أتورَّط مع هذه الكائنات القبيحة، وبسرعة سلَّمت المبلغ المتفق عليه لذلك الصفيق الناعم ذي الكحل والخواتم، وسحبت غلايتي حتى خارج الشقة، سحبتها حتى المصعد، ونزلت بها إلى الدور الأرضي. ثم ذهبت لأبحث عن أحد يساعدني لرفعها إلى صندوق السيارة، وجدتُ عاملَ تنظيف ينظِّف موقف السيارات فطلبت مساعدته، فهبَّ لنجدتي ووضع يده مع يدي.

رفعنا الغلاية إلى صندوق السيارة؛ فارتفع السؤال المرير إلى صدري طاعنا روحي، غارسا سكينا في قلبي: ماذا يعمل ذلك الكائن التافه في هذا المكان الفارِه؟ ما هي وظيفة ذلك المخلوق الخليع بالضبط؟ ومن منحه شقة فارهة بهذا الحجم، وبتلك الضخامة؟

بلعتُ ريقي الممتلئ مرارة ولعنة، وخرجت من المجمع السكني، وطوال الطريق من مسقط العامرة إلى مدينتي الميتة، وأنا أُحسبل وأحوقل وألعن ما رأيت وما فيه.