إسماعيل بن شهاب البلوشي
استوقفني وبدهشة كبيرة ما قرأت في مخطوطٍ عمانيٍّ قديم، كُتب قبل حوالي 200 عام، به الكثير من الحقائق عن الوقف وما له وما عليه، ولقد كانتْ دهشتي من تلك المساحة الواسعة بين ما كان وما نحن عليه اليوم.. نعم إنَّ طبيعة الأيام متغيرة ومتجددة بكل ما فيها وبكل ما لها وما عليها؛ غير أنَّ الثوابت العُليا التي تربط الإنسان بالحياة يمكن أن يتغيَّر شكلها فقط، أما تلك الثوابت والأسس والتي تربط الإنسان واستمراره بالحياة، ليس لمجرد العيش وإنما للحياة، في سعة وتكافل ما بين البشر وقراءة ما ينقص البعض بنية التكامل من الجميع وللجميع، فهي تقع في خانة التطوير الملزم والملح للإنسان وليس التناسي وفي كل زمن.
عندما تعمقتُ في قراءته، وجدتُ أن الوقف به سعة ومساحة كبيرة في طريقة إعلانه وكيفية التصرف فيه، ولقد كان في جزءٍ منه تكافل طيِّب ليس للفقراء والمساكين والمحتاجين فحسب؛ بل إنه يتعدَّى ذلك لتحديد الوقف لفقراء معينين من المجتمع بنية استمرار تلك الكفالة والحماية للأبد.. وهنا أقف اليوم موضحاً بعض الجوانب الوقفية التي من خلالها بقي الوقف باسم من أوقفه إلى ما لا نهاية، محمياً بقوانين وأعراف مكتوبة ومقدرة ومحترمة من الجميع. لذلك؛ أرى أنَّ الوقف الخيري المذكور -ومع أنه مُطبَّق ومعمول به في الكثير من الدول تحت مظلة الدين الإسلامي الحنيف- إلا أنني أرى أنه من جانب آخر يفتقد لتلك الخصوصية التي تحتاج تفكيرا ووقفة قانونية ودينية لمراجعة إبقاء الوقف باسم صاحبه، وليس إلزماً أن تديره الأوقاف مثلاً. وفي نفس الوقت، يُمكن أن يكون تحت نظام التسجيل العقاري وبقوانين محددة قانوناً ومسجلا فيه نوع الوقف، ولمن يوزع، ومتى، ومن هو وكيله، بل وصيانته وتطويره، ليكون أفضل وليربى ويزيد، ولضمان مواكبته الأزمان المختلفة.
أعتقد أنَّنا بحاجة لتأسيس لجان تضم في عضويتها ذوي الرجاحة والفكر والمعرفة الدينية والاجتماعية، ومن مختلف الجهات، وتمثل شرائح مختلفة من المجتمع، لكي تُعيد النظر في تحديد ذلك بشكل أكثر مرونة وتحت مظلة القانون، مع مراعاة الوضع الحالي ليكون للوقف شأن آخر وبُعد فيه من ضمان صاحب الوقف أنه -وإلى الأبد- سيكون باسمه ولمن أراده، وبذلك يمكن أن يحفظ كثيراً من الأقرباء، إذا أصبحوا في حاجة مع الزمن ودارت بهم الأيام في زمن لاحق، وكذلك تشجيع الآخرين من خلال هذه الثقة والمعرفة والخصوصية والضمان. تماماً مثلما يعرف الجميع عن وقف سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الذي لا زال باقياً وباسمه، وفيما أراد له من تنمية إلى يوم الدين.
أما اليوم، فلمن ينظر إلى الأمر في صورته الاعتيادية، فإن قراءته تكون خلطاً بين الوقف الحكومي والخاص، وإن جله باسم وزارة الأوقاف، وكأنه بذلك غير مطمئن، فكيف ستتم إدارة وقفه وإلى من سيوجه، وهل سيذوب مع الوقت، أم أنه سيزيد في حجمه والمنتفعين منه. لقد كان لذلك سبب كبير في عدم تنمية هذا الجانب، مع وجوده حتماً، وكذلك جهد وزارة الأوقاف المقدر في هذا الجانب أيضاً، وأن من ينظر إلى أنَّ وقف الإنسان مسجل عند الخالق عز وجل وانتهى الأمر، فهذا لا شك فيه، غير أنه تناسى مقدرة ومكامن وأفكار ورؤية الإنسان التي تحتاج دوماً إلى الثقة والوضوح والبث الإعلامي المناسب بلغة أقرب إلى واقعه وفكره.
وعلى أية حال؛ فإنَّ الإنسان وعلى ما يملكه قليلاً أو كثيراً، وبما أنعم الله عليه، فإنه إذا علم أن هذا الوقف سيكون محدداً فيما ذكر فيه وقد يكون للفقراء من أهله ومستحقيه، فإنه إضافة إلى الخير العظيم واستمرار الأجر قطعاً، فإنه سيعلم أنه ما زال جزءاً اصيلاً مما يملك وما يدَّخر لآخرته ولأهله في حياته وبعد مماته، وان المُلك باق باسمه؛ بل إنه قابل للتنمية والزيادة، كما أن إشاعة هذه الثقافة وتوضيحها للناس بما تستحق، وكذلك مستقبلاً قراءة لوحات وقفية لأسماء رحلت عن الدنيا من زمن بعيد، كل ذلك حتماً سيكون سببا ودافعا قويا للآخرين للانتفاع بهذه السمة السمحة العظيمة لمصلحة الإنسان أولاً وأخيراً.
وبذلك؛ سنفتح أبواب خير وتسهيل على الناس لكسب الأجر وكفالة المجتمع، ومن يرَ أنَّ الأمر جامد ومنتهٍ ولا نقاش فيه، فإن هذا الفكر يعد واحداً من الأفكار التي جعلت من منظور السعة والسمة في ديننا الحنيف غير متجددة أو مسايرة للتقلبات وتغير أنماط الحياة، في حين أن الدين الإسلامي الحنيف وُجد ليساير أي عصر وأي مرحلة، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.