لغتي تشتكي حتى من المشتكي!

د. حميد بن مهنا المعمري

الجميع متهم، والجميع مدعو للمثول أمام النحو، قاضي القضاة، والوقوف بين يدي الصرف، قاضي المحكمة العليا، والجلوس في قفص الاتهام أمام البلاغة قاضي محكمة الاستئناف، الجميع مُقصِّر، في جناب لغة الضاد التي أعجزت العرب أن يُحيطوا بها علما إلا أن يكون نبيًّا؛ فقد استعملها القرآن استعمالا خاصا بليغاً معجزا، أبهرت الألباب، فقهرت على العرب أفئدتهم، وأخضعتهم وجرّتهم من تلابيبهم، وأيقنوا مبكرا أنهم غير قادرين على مجاراة القرآن الكريم في أصواته ومفرداته، وتراكيبه وأساليبه، لغة بهذه الإمكانات وبهذه المفردات، وبتلك التراكيب، والأساليب، استطاعات أن تكون وعاءً صالحاً لكلام الله، ومن أراد أن يسلك طريق العلماء المجددين المحققين، فليعتلِ صهوة اللغة العربية؛ لأنها بوابة العلوم ومفتاح الفنون؛ فمن أحرز فيها قصب السبق وضرب فيها بسهم وافر؛ فقد سلك الطريق الصحيح ومشى في الاتجاه السليم.

إنّ أبناء العروبة يشتكون ويولولون من صعوبة لغتهم وكثرة قواعدها، وتفرّع مسائلها ووعورة مسالكها، وعدم اطراد مسائلها.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق: من أين أتت هذه الصعوبة المزيفة المزعومة؟!!

يبدو لي أن الجميع شركاء في بناء هذا السياج الذي يحول بين الطلاب وبين لغتهم العربية، فالمناهج الدراسية التعليمية شريكة في خلق هذه الصعوبة وتلك النفرة والشعور بالوحشة والغربة، بحشوها بتفريعات جزئية، تزيد الطالب تشتيتا، وبعضها تدمج بين المدارس النحوية، البصرية والكوفية، ككتاب المفيد، الذي يخرج منه الطالب كالبليد، وكتاب المؤنس، الذي هو في حقيقته معنس، وهو بحاجة عاجلة إلى تهذيب وإلقاء تفثه، وقد نجحوا نجاحا باهرا في اختيار عناوين هذه المناهج واعتنوا بها عناية بالغة، لكن مضامينها تلعن عناوينها، هذه الكتب المدرسية، ككتاب (المفيد) الذي سبقت إشارتنا إليه، والذي يحتاج إلى تجديد وشقيقه (المؤنس)، وهو في حقيقته مفلس، ومؤسف، وكتاب (أحب لغتي) والطالب في حقيقته يكرهها، و(لغتي جميلة)، وقد خرج من سنته الدراسية ولغته في عينه قبيحة، وكتاب (اقرأ)، ولسان حال طلابنا: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ. علاجه الرجوع إلى نصوص القرآن الكريم لاختيار نصوصها، والأخذ بنصيحة ابن خلدون (ت808هـ) عندما أخبرنا بقوله: قال ابن خلدون: سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فَتَبَعٌ لها وفروع منها، وهذه دعوة صريحة لانتقاء النصوص الرائعة منها ومن غيرها، والتي تجعل طلاب العربية يتلذذون بها ويُقْبلون على تعلمها. لكن لا يعني أنه لا توجد ثمة مناهج جاذبة؛ فبحمد الله بدأنا نرى بعض مناهج اللغة العربية في الصفوف الدنيا تمتاز عن غيرها بطريقة العرض المجدولة الجاذبة، وتنوع الأساليب في طرح القضايا.

أما الشريك الثاني في تمكين الجدار العازل، وتسمينه وازدياد سماكته بين الطالب ولغته الأم، فيتمثل في الاختبارات النهائية، فيتم تحوير الأسئلة، وغموضها، وتقليبها، بطريقة تنفّر الطالب، وينتظر الفرصة بعد الثانوية ليقطع علاقته بقواعدها ويبتر كل صلة تربطه باللغة العربية، ثم يقطع على نفسه عهدا أن لا يعود إلى حياضها، ويرتع في بساتينها.

والمخرج من هذا الداء العضال، الذي بدأ يسلخ طلاب العربية من جلود هويتهم ورمز وحدتهم، ولغة قرآنهم، الاكتفاء بالنحو الوظيفي، الذي يحتاجه الطالب في تعبيره الكتابي والشفهي، وتخليص الكتب المدرسية من التفريعات، التي تنفّر الطالب، فلا هو استفاد، ولا هو أقبل على تعلمها، ولا حتى حلم بالتخصص فيها.

فإعادة النظر في المادة المقدمة في بعض المناهج المدرسية بات ضروريا وملحّا، حتى إنّ معلم اللغة العربية أصبح منزعجا مما يشاهد ويسمع من تدني مستويات الطلاب، والتي كان من المفترض أن تكون مستويات مرتفعة، تُلقي تلك المستويات الرائعة بظلالها على باقي المواد، لأن الدراسات تُشير إلى أنه كلما تفوق الطلاب في لغته الأم كان سببا مؤثرا في تفوقه في المواد الأخرى.

ولا يُفهم من حديثي أنني أدعو إلى تهميش قواعد اللغة العربية، أو ابتزارها، ولكن أدعو إلى مناهج دراسية أكثر واقعية، في طرحها، وأكثر دقة في معالجتها، وإلا فأين نحن من دعوة وصيحة ابن مضاء القرطبي (ت592هـ) لإلغاء العوامل، وهو من أبناء القرن السادس الهجري، في كتابه "الرد على النحاة" الذي حققه الدكتور شوقي ضيف، وقدّم له بمقدمة، تليق بالكتاب المحقَّق، وترفع منه، وهو بذلك لا شك يريد التسهيل والتبسيط، بدعوته لإلغاء العوامل التي جمعها الشيخ عبدالقاهر الجرجاني (ت 472هـ) في كتابه المختصر (العوامل المائة النحوية في أصول علم العربية)، وشرحها الشيخ خالد الأزهري (ت905هـ) في كتابه "شرح العوامل المائة النحوية في أصول علم العربية"، فكيف لو ظهر ابن مضاء القرطبي، ورأى ضعف أبناء اللغة العربية، في مبناهم ومعناهم، فبماذا عساه أن ينادي؟!

وأختم حديثي عن اللغة العربية بخير الكلام: "قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (الزمر:28)، وإلا في النفس كلام وكلام.