علي بن سالم كفيتان
انقطعت عني أخبار صديق قديم، فكلما اتصلت برقمه يرد عليَّ عامل وافد يقول لي: مسعود في موت (أي: مسعود مات)؛ فمسعود صديق دراسة وليس من محافظتي، ولو كنت عالما بوفاته لاتبعت جنازته وعزيت اهله، لكنَّ الجغرافيا المكانية حالت دون ذلك، ورغم ذلك لم أمسَح الرقم من حافظة هاتفي النقال، وعند كل تحديث للأرقام أتخطَّاه لا إراديًّا، وأحتفظ به رغم علامة التعجب التي أرسمها داخل نفسي، وأقول الرجل مات، فلِمَ الاحتفاظ بالرقم؟ فأنشغل بأمور أخرى، فيظل مسعود حيًّا في هاتفي.. ميت حسب إفادة العامل.
وفي أحد الأعوام، وبعد مرور زمن طويل -قرابة العشرين عاما- كُنت أقوم بجولة في ربوع بلادي، ومررت على ولاية أخينا -رحمه الله- واستأجرنا استراحة في أطراف الولاية، وبعد أن نام الجميع، انتابني شعور جامح بالبحث عن صديقي، والسؤال عن حال أسرته، فقلت هي فرصة عظيمة لوصل علاقة انقطعت منذ دهر بعيد، فربما له ولد وربما أب أو أم أَصِلُها، فأستحضر ذكرياتنا الجميلة في ربوع الجامعة. غَفوت ولم أشعر إلا بمؤذن الفجر ينادي للصلاة، فتوجهت راجلاً لأقرب مسجد، وكان بين حقول النخيل الغناء؛ فوجدت تلك القرية كما كان يَصِفها لي صاحبي، وكنت أتعجَّب من شوقه ولهفته للعودة، فما كنا نُكمل محاضرات الأربعاء إلا وأجده حازما أمتعته، وراكضا خارج الوحدة السكنية السادسة، مُبتَسِما ويقول: "بتروح معي البلد؟"، فأرد عليه بالنفي، متمنيا له عودة حميدة، فكان يحضر لي في كل زيارة هدية عبارة كرتون من الحجم الصغير لصنف لذيذ من التمور أو الهمبا (المانجو) التي تنتجها قريته الرابضة في حضن جبال الحجر. كان مسعود صديقا وفيًّا ومتديناً، فلا تفوته صلاة الجماعة، علمته الكثير من كلمات لهجتنا الريفية في ظفار، فكان يكتبها ويراجعها جيدا ثم يحدثني بها في اليوم التالي، ولم تنقضِ السنوات الأربع في الجامعة إلا وأخينا أصبح جبّاليًّا بالتمام والكمال؛ فلا عجب أن تراه بالقميص والوزار الظفاري الملون في أروقة الوحدة السادسة، ويطيب له الحديث بالريفية مع من يجيدها منا رغم لكنته المتكسرة قليلا.
أكملتُ طريقي لمسجد قرية أخي وصديقي مسعود، فصرت أشم رائحة الريف النقي وسكون المكان وخرير ماء الساقية المتدلية من الجبال الشاهقة، فقُلت في نفسي لا ألوم مسعود في تلك الأيام الخوالي عندما يندفع من الخوض كالصاروخ إلى هنا، ولا ألومه عندما يأتي حزينا منكسرا مساء الجمعة، محملا بكراتين التمر عالي الجودة التي يوزعها على الأصدقاء، وفي مواسم المانجو كنا كذلك نحظى بتذوق خيرات المكان؛ لأن صاحبه تعود على العطاء، وغالبا ما يحدثني عن حبه وولهه بقريته الجميلة؛ فكنت أقول في نفسي: الرجل يصف الجنة. كان يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب منذ كان في العاشرة، ورغم انشغاله بالدراسة والكتب الدراسية، إلا أن القرآن ظل رفيقه الدائم في أوقات الفراغ وفي قاعة الكافتيريا؛ حيث تجده في زاويته المفضلة منكبا على كتاب الله العزيز.
وصلتُ قبل الإقامة، فانزويت إلى ركن المسجد الصغير جنب النافذة التي كانت قريبة من الأرض، فترى من خلالها ضوء الصباح يتسلَّق رؤوس النخيل وقمم الجبال وصوت القرية، يصحو مع ذلك المؤذن العجوز وهو يقيم الصلاة، ارتصَّت الصفوف منذ بزوغ الفجر الأول ولا تكاد تلقى فجوة في مسجد الأتقياء هذا، يتقدمهم المشايخ أصحاب اللُّحى البيضاء الناصعة، ويليهم أولو النُّهى من حفظة كتاب الله العزيز، وقفتُ في زاويتي ودخلت في صلاة لم أقفها بإخلاص وحضور ذهني منذ نصف قرن، وبعد أن فرغ الإمام جلس إلى حلقة علم، وكان محورها علم الحديث الشريف، ولم يُغادر رجل واحد تلك الحلقة، فكل من شهد الفجر شهد حلقة العلم تلك، وبعدها انفضُّوا مُسلِّمين على بعضهم، والتفتوا لي جميعا كرجل غريب عنهم، فتقدموا يعزمونني للإكرام، فسألت أحدهم عن صاحبي مسعود وعن ما صارت إليه أموره، وهنا التفت الرجل حوله وسأل آخر متسائلاً: مسعود ما صلى معنا؟! هنا أيقنت أنَّ صديقي لا يزال حيًّا يرزق؛ فأجابه بأن مسعود من يومين نازل مسكت (مسقط)، غادرت المكان أصوغ الكثير من الأعذار لكي أتحلل من واجب هؤلاء الناس الاستثنائيين، وسألت شابًا أن يدلَّني على منزل صاحبي، فأخذني بسيارته "البيك آب" إلى أطرف القرية؛ حيث منزل جميل وسط حقل أخضر محفوف بأشجار النخيل، فعدتُ للاستراحة وانتظرت الصباح، وكانت أعظم فرحة هي مُقابلتي لمسعود في نهاية النهار، وقضاء بضعة أيام في ضيافته بهذا المكان الطاهر الجميل من عُمان.. حفظ الله بلادي.