التعليم الإلكتروني في "الزمن الكوروني"

د. حميد بن مهنا المعمري

وعدتُ بأن ثَمّةَ تتمة لموضوع "في بيتنا غشاشٌ ومُغشّشٌ.."، والوفاء بالوعد من شِيَم الأحرار، لكنها تتمة في ثوب قشيب وعنوان له صلة ولو من قريب.

وقبل كل شيء وبعده، ومن فوقه وتحته، ومن أمامه وخلفه، يصعب إن لم يكن مستحيلًا على المرء أن يتحدث في كل ميدان، لأن لكل فنٍ رجاله، وقد قيل من تحدث في غير فنّه أتى بالعجائب التي يرفضها العقل، ولا يستسيغها المنطق، ولا يقبلها الشرع بطبيعة الحال.

والتعليم الذي يليق بهذا العصر، عصر الانفجار المعرفي، والتخزين السحابي، عصر معضلة كثرة المصادر -إن جاز التعبير- في زمن كان شُحٌ المعلومات وقلة المصادر هي المعضلة. وها نحن الآن نتفيَّأ ظلال التعليم الإلكتروني سواء المباشر أو المتزامن أو المدمج أو عن بُعد، إلى آخر المترادفات أو المسميات التي تتضمن المعنى نفسه تقريبا.

فقد شاء الله ولا مشيئة لغيره، أنْ تتغير الحياة وتستجد أمور ليست في الحسبان، بل لو حكاها لنا أو حدّثنا بها أحد قبل معايشتها، لاتهمناه بالمبالغة، فيما يحكي ويُحدّث.

فعلى صعيد الاقتصاد تماسكتْ دول، وسقطت أخرى في براثن الديون والاستقراض، بل وصل الأمر حدّ الابتزاز بسبب الظرف المالي الراهن، حتى بلغ الأمر الحناجر، فقد أفلست شركات عابرة للقارات، وشُرِّد ناس كثر من أعمالهم، وأصبحت الدول في مأزق حقيقي أمام التحديات التي أفرزتها الفترة الراهنة،  وظهرت على السطح هشاشة اقتصادات بعض الدول فعصفت بها الريح لأول وهلة، وبقيت بعض الاقتصادات متماسكة، عتيّة على السقوط في وجه العاصفة، بسبب التخطيط الجيد، والاستعداد المبكر، والعمل الدؤوب، والأمانة في التنفيذ، واختيار الكفاءات ووضعها في مكانها المناسب.

أما الجانب السياسي، فليس ببعيد عمَّا يدور في العالم فتكتلت دول وتعاونت، وظهرت أخرى بثوب الأنانية المقيتة، وهكذا تتكشف المعادن، وتسقط الأقنعة البرّاقة، في الظروف الصعبة، وما حصل مع إيطاليا والاتحاد الأوروبي، يلخص لك الوضع جيدا.

أما الجانب الاجتماعي، فأصبح البُعد مطلبا مجتمعيّا وشرعيا،  وعدم التزاور، واللقاءات العائلية، وعدم إقامة المناسبات الاجتماعية بشقيها المفرح منها والمحزن، أصبحت جميعا ضرورة مجتمعية وصحية ودينية يجب البُعد عنها، وعدم السعي لها بعدما كانت قبل العصر الكوروني المساس بشيء منها جريمة لا يغفرها المجتمع.

وحتى الجانب الديني، اقتضت إرادة الله ومشيئته -لحكمة يعلمها وحده- أنْ تغلق المساجد وتتوقف الجماعات فيها والجُمَع.

أما الجانب التعليمي، وهو محور حديث هذا المقال، وقطب الرحى الذي يدور الكلام في فلكه، فإنه كذلك ليس بمعزل عما يحدث ويدور، فإنّ المدارس والجامعات والكليات أغلقت جميعا أبوابها ورفضت استقبال طلابها العامرين لها، فصرخ الآباء والأمهات، أن أعيدوا النظر في إغلاق المدارس، والكليات والجامعات، فكانت الصرخات تتوالى من هنا وهناك، ولكنها مشيئة الله تعالى نافذة، وحفظ الأنفس مُقدَّم على التعليم. ومن جانب آخر، كان إغلاق المدارس والكليات والجامعات فرصة حقيقية، أنْ يعيش ويشعر الآباء والأمهات بالمسؤولية الوالدية، تجاه من استرعاهم الله تعالى، فأصبحت البيوت مراكز صيفية، يتعلم فيها الأبناء والبنات كثيرًا من الدروس العلمية والحياتية، فتحولت المِحن إلى مِنَحٍ، عندما يُخطط لها، ويقُبل الجميع عليها للاستفادة منها بأقل جهد، وأقل تكاليف.

هنا.. لمع في الأفق -بعد ذاك المخاض العسير- التبشير بمولد جديد، من رحم المعاناة، أُطلق عليه التعليم الإلكتروني، الذي كان يُنظر إليه وعليه أنه تحصيل حاصل، وأخفّ الضررين، وإنْ لم تجدوا ماء فتيمموا، لكن سرعان ما بدأت تتغير النظرة مع طول التوقف، وإغلاق المدارس، فأصبح التعليم الإلكتروني ماءً، بعد أن كان ترابًا للتيمم، وأمسى غيره ترابَ تيمم بعد أن كان هو الأصل وغيره الفرع.

جاء التعليم الإلكتروني في وقته، وفي ظرفه الزمني، ولا مناص للتنازل عنه لبديل آخر، مهما أظهر ذلك البديل فاعليته في الماضي.

نحن في زمن عابرات القارات، وبسرعة الصوت، ولا يمكن أن يقول عاقل بأن الحمير والبغال أكثر أمانا وأقل مالا!

ولا يخشى من التعليم الإلكتروني سوى أولئك الذين لديهم فوبيا الجديد، ويخافون استشراف المستقبل، بنظرة بعيدة المدى.

من جانب آخر، فقد تمَّ تسجيل بعض الملاحظات على التعليم الإلكتروني، ومرجع تلك الملاحظات -التي حدا ببعضهم رفعها إلى مستوى المشكلات، ولكن من وجهة نظري المتواضعة فإن مرجع تلك المشكلات- عدم استعداد المجتمع لهذا المولود الجديد، الذي بشّر به ذلك المخاض العسير، وعدم إعطائه الثقة الكافية، ولم يُعطَ الوقت الكافي لإثبات فاعليته.

أما من جانب المعنيين، والقائمين عليه -مع تقديرنا لهم- فقد أفشلوه عندما أطلقوا اسم الاختبارات على الأنشطة، والأنشطة اختبارات، وأجهضوه من رَحِمِهِ قبل موعده عندما جعلوا الاختبارات الإلكترونية تقيس مهارة التغشيش عند أولياء الأمور، والغش عند الأبناء.

قتلوه في مهده عندما لم يُنعش بدمائه التي تجري في شرايينه، فلم يوفروا له بنيته الأساسية وأرضيته التي يقف عليها ويستمد منها قوته، فكانت ولادة التعليم الإلكتروني سببا في الكشف عمَّا كان مستورا من هشاشة وضعف خدمة الإنترنت، إلى حدّ الموت في بعض المناطق النائية.

وقبَّروه في مهده اليافع قبل أن يصل إلى لحده، عندما قالوا إنه "بديلٌ" فقط، وسنعود من جديد للمدارس.

دمَّروه تدميرا عندما جعلوه أداة لقياس صحة أو ثبات مهارة الغش والتغشيش.

أيُّها المعنيون، رِفقا بالتعليم الإلكتروني، فإنه بحاجة إلى أن يقف على رجليه لينطلق بقوة.

أيَّها القائمون على التعليم الإلكتروني القافلة تسير، والقطار لا يعود للوراء، والتركيز على التعليم المباشر والاهتمام به فقط في المدارس، تراجع للوراء، وتنكّب الطريق، والسقوط في الهاوية، بل يجب أن يتماشيان على قدم المساواة.. والله الموفق لكل خير.