لا تغفلوا الشرر الصغير؟!

 

حمد بن سالم العلوي

لقد انتشرتْ بعض المقاطع الصوتية في الآونة الأخيرة، تشتكي وترفع مظالمها إلى جلالة سُلطان البلاد المفدى -حفظه الله ورعاه- وكذلك بعض الكتابات في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وفيها نوعٌ من القفز على القنوات الطبيعية للمُتظلِّم بالشكوى، وكأنهم لا يريدون أن يعلموا أن جلالته -أعزَّه الله- يواصل العمل الليل بالنهار من أجل عزة ورفعة عُمان، ورفاهية شعبه الوفيّ، وأنَّ هذه المرحلة من بداية حكمه الرشيد، أتته مُتشعِّبة في مشكلاتها وعقدها وتعقيداتها، ولولا الحكمة وبُعد النظر الموروث منها والمكتَسَب، لاستعصى عليه ابتكار الحلول الناجعة للكثير من هذه المشكلات مستعصية الانفراج، ومع ذلك فقد فرَّج معظمها وبعضُها سيُفرج عن قريب، بإذن لله تعالى.

لذلك؛ على الناس أنْ لا يزيدوا الضغط في هذه الأيام، وأنَّ الحكومة بوزرائها وتخصصاتهم وُجِدوا لمساعدة جلالة السلطان في إدارة الدولة، وهناك أجهزة أخرى مُتخصِّصة كالقضاء والشرطة والأمن، كلٌّ في حدود تخصصه واختصاصه؛ فلا يُعقل أنَّ كل صغيرة وكبيرة يُتوجَّه بها إلى جلالة السلطان، وكل هذه الجهات قد وُجدت في خدمة المجتمع، فينبغي على كل مسؤول مُختص أن يُبادر من تلقاء نفسه بتلقي شكاوى الناس بصدر رحب، وعلى أساس أنَّ المواطنَ صاحبُ حاجة وحق؛ فلا يدفع بكل شيء إلى قصر الحكم لكي يحل مشكلات الناس العادية والمتكررة، إلا في الأمور التي يستعصي حلها دون أمر سامٍ من جلالة السلطان المعظم.

إنَّ المجتمع الذي نام على عسل ريعية الحكومة في كل شيء، قد صَحا اليوم وسط بحُور من الأزمات والأمواج المتلاطمة من حوله؛ فبعضها ساقته الأقدار بحكم عوامل الدهر، والباقي أتى به سوء التخطيط وخطأ التقديرات، فربما سمع المسؤول عندنا أن الغرب (مثلاً) يفرض ضرائب ورسوما لتغطية ضعف الموارد، وتغافل هذا المسؤول أو غفل عمداً أنَّ أوضاعنا مختلفة تماماً عن الدول المتقدمة. فالنظام الريعي قد سكن وجدان الناس في منطقتنا الخليجية، وإن هذا العطاء كان يعطى للناس لمنع الكفاف والعوز، فمتى أنت اقتطعت منه ولو القليل، فإنك قد أخللت بالتوازن الذي كانت تجري عليه أمور الناس. أما في الغرب، فقد تعود الناس على الرواتب العالية، والدخول المجزية، وقد تكون نسبة الحسد والتحاسد مُنخفضة في المناطق الباردة، فمهما فرضت من ضرائب هناك سيظل الأمر مقبولاً لديهم؛ لسببين؛ أولهما: الاعتياد في الأخذ والعطاء، وثانيهما: أن لديه ما يعطيه، وأيضاً يعرف فيما سينفق ماله المعطى، ولديه ممثل في البرلمان يحاسب الحكومة على ما أخذت منه، حصل ما لم يكن في الحسبان.

أما عندنا؛ فهناك مشكلات عدة تنشأ عن هذا الأخذ؛ أولها: أنَّ الإنسان تعود على الأخذ لا العطاء، وثانيهما: أنه يُسرع للمقارنة مع دول الجوار فوراً اعتماداً على معلومات القيل والقال، وثالثهما -وهذا الأخطر: أنه يظن جازماً أنَّ الذي يدفعه للحكومة يذهب ليتنعَّم به المسؤول الموظف، ولا يعود عليه بأية فائدة! وأن أعضاء المجالس المنتخبة منهم من هو "محكوم عليه بالفساد مسبقاً" من قبل المجتمع، لأنه عجز عن الوفاء بعهوده في التوظيف ومد الشوارع الجديدة، وهذه وحدها قصة طويلة. إذن خلاصة الأمر أنَّ هناك فجوة واسعة بين المواطن والدولة، وليس الحكومة وحدها، وهذه حالة تحتاج دراسة موسعة؛ لإيجاد طريقة مناسبة لردم هذه الهوة الكبيرة.

لقد طالبنا -أنا وغيري من كُتاب المقالات- بشفافية الحكومة مع الشعب، وطالبنا بإشراك المواطن في الرأي من خلال مجلس الشورى -على الأقل- وذلك لتبنِّي بعض المطالب العامة بين وقت وآخر، ثم يفتح له المجال للحوار المباشر في ندوات عامة، يحضرها مسؤولون مختصون. فعلى سبيل المثال: عندما نتكلم عن موارد الدولة المالية، فيجب أن يحضر وزير الاقتصاد، ووزير المالية، ووزير الطاقة والمعادن، ووزير الإسكان والتخطيط العمراني، ووزير النقل والاتصالات وتقنية المعلومات، ووزير التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، فكل مسؤول من هؤلاء المسؤولين يتحدث عن الدخل الحالي والمستقبلي، وكيفية إنفاق هذه الأموال وما مدى استفادة المواطن المباشر وغير المباشر منها، وهنا سنضمن تفهم المواطن عندما يعرف نهج الدولة ورؤاها المستقبلية.

أما أنْ تظل الدولة تفرضُ الرسوم والضرائب وهي متخندقة في المكاتب ولا من أحد يفهم أهدافها، والمواطن يُعطَى من بحور الصمت صمتاً، فلا يُتصور منه أن يظل صامتاً بلا حدود، فهذا كلام فيه وجهة نظر، خاصة وأنه تعود على أن الذي يؤخذ منه لا يعرف أين يذهب، ولا يتم التراجع عنه مستقبلاً. واليوم وصلت المسألة إلى العظْم، فبالنسبة للموظف الذي كان ينتظر ترقية وزيادة دورية، أصبح يُقتطع من راتبه -الذي تعود عليه- مبلغ قد يصل إلى الربع أو الثلث من مجمل الراتب، وهو في أمسِّ الحاجة إلى هذه المبالغ، ولا يُقال له إلى متى سيكون هذا الاقتطاع؟! ولا كيف سيعوَّض عنه في المستقبل؟! وأنا أجزم لو أن هذا الموظف أو المواطن غير الموظف جرى إفهامه وإقناعه بهذا الاستقطاع، وعلم إلى متى، لغض الطرف عن أكثر من ذلك.

... إنَّ المواطن الذي يعيش بين قلة التوضيح الحكومي، ونار التحريض المتعمد من البعض، الذين يسعدهم الإضرار بعُمان واستقرارها، يتردد على مسمعه ما يوازي قول الشاعر السوداني إدريس جمّاع: "إنّ حظّي كدقيق.. فوقَ شوكٍ نثروهُ.. ثمّ قالوا لحُفاةٍ.. يومَ ريحٍ اجمعوهُ.. صعُبَ الأمرُ عليهمْ". إذن؛ ليس من الحكمة أن يترك المواطن العُماني تتقاذفه أمواج الصمت الحكومي، والحاجة، ثم تأتي لتنتخيه بالمهلب ابن أبي صفرة، أو الصلت بن مالك الخروصي، أو أحمد بن ماجد السعدي، أو الإمام الوارث بن كعب، أو الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، أو الإمام سيف بن سلطان "قيد الأرض" أو الإمام أحمد بن سعيد، أو السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي... وغيرهم كثر من فطاحلة التاريخ العُماني العظيم.. لكن هذا لا يرد عنهم طوفان الدعاية الغازية من خارج الحدود. وفي المقابل، إعلام محلي محدود الإمكانيات ويعاني الكثير من التحديات.

إذن.. لا تُصنع الأمم بالتهميش والتطنيش، ولا بإغفال الاستجابة إلى مطالب الناس، وليس من حلول ناجعة إلا بالمكاشفة والمواجهة، وإحياء الوعي وتنشيطه وتقويته، وبالاحترام المتبادل.