أبريل المقبل.. التحول الأكبر في بلادنا

د. عبدالله باحجاج

لا يُمكن للحكومة تجزئة التحولات، ولا انتقاء ما لها، وتترك ما عليها.. فالتحولات منظومة شاملة، اذا لم تتزامن "توقيتا وتطبيقا" ترتبك الأوضاع، وقد يكون هذا الارتباك شاملا، إذا ما كانت التجزئة والانتقائية تُبقي سيطرة الحكومة المطلقة على اتخاذ القرارات في مرحلة جديدة تستوجب الشراكة في صياغة التحولات؛ لأنها تمس الكل، والضرر الأكبر فيها سيقع على المجتمع.

فهل ينبغي تغييب المجتمع أم إشراكه فيها؟ فالتمسك بالسيطرة المطلقة على القرارات المصيرية -كثابت- في ظل كبرى المتغيرات التي أصبحت تمس جوهر الحقوق والمكتسبات الاجتماعية، أصبح أمرًا من الماضي، واستمراريته من المؤكد أنه سيتسبَّب في مجموعة إشكاليات كبرى.

هذه مُقدِّمة ليست افتراضية وإنما واقعية، وتفتح الآفاق وتستشرف المستقبل القريب، وتقدم رؤية موضوعية للفكر السياسي، خاصة وأن بلادنا مقبلة على استحقاقات جديدة غير مسبوقة في تاريخها الحديث، تعيد ذاكراتنا إلى أزمنة سابقة عندما كانت الضرائب تفرض بنسبة 300%، ويئن بها كاهل المجتمع، والجيل القديم، يعلم حجم الارتباك الذي أحدثته سياسة الضرائب المبالغ فيها.

أولى هذه الاستحقاقات الجديدة والقريبة هي تطبيق ضريبة القيمة المضافة في العاشر من أبريل المقبل، في وقت تتعالى فيه الآن الصيحات والصرخات حتى من كبار السن، وتعج بها وسائل التواصل الاجتماعي -صوتا وصورة- يشتكون من معاشات التقاعد المتدنية، وترسم صورة سلبية لواقعنا الاجتماعي.. فهل ندرك سياسيًّا معنى يوم العاشر من أبريل المقبل، ومن ثم دلالته وأبعاده وخلفياته، وأخيرا تقاطعاته؟!

 

أولًا - التقاطعات:

ندعو إلى قراءة مقالنا الأخير المعنون باسم "مستقبل الاستقرار الاجتماعي في بلادنا"؛ فقد أشرنا فيه إلى تقاطع ارتفاع معظم الأسعار الغذائية الأساسية مع السياسات المالية المؤلمة، والآن نُحذِّر من تقاطعه مع ضريبة القيمة المضافة، بعدما وصل الارتفاع في الكثير من المواد الغذائية إلى 20%، وهنا سيطال الارتفاع كلَّ مناحي حياة المجتمع بعد تطبيق ضريبة القيمة المضافة؛ رغم أن قانون الضريبة يستثني 90 مادة أساسية، إلا أنَّ هذا الاستثناء يفقد مفعوله في الحفاظ على استقرار أسعار سلة غذاء المواطنين، ما دامت الأسعار سترتفع أصلا في السوق المحلي بسبب ارتفاعها عالميًّا.

كذلك علينا التفكير في مستقبل غذائنا بعد تطبيق ضريبة الدخل المقبلة التي سترفع بدورها الأسعار بصورة عامة؛ إذ إنه لا يُتصور أن يمتص التجار هذه الضريبة دون أن يحملوها المجتمع بصور شتى، فهل لدى صناع القرار تصورات مسبقة بحجم تقاطع ما يحدث في الخارج على الداخل؟ وهل يمكن أن يكون هذا التأثير سياسيا؟ نتمنى أن تناقش هذه الجزئية المهمة بموضوعية، ومن خلال عقول حريصة على سلامة الوطن واستقراره.

 

ثانيًا - الدلالات:

بعد تطبيق ضريبة القيمة المضافة في العاشر من أبريل المقبل، سنقترب كثيرا من تغيُر نمط العلاقة بين المواطنين وصناع القرار في بلادنا، وسيكون التغيُر ملموسًا من جهة، ومختلا من جهة أخرى. فمثل هذه الضريبة- وما حدث قبلها وما سيحدث بعدها- فُرضت على المواطنين، ولم يشارك فيها المجتمع عبر ممثليه في مجلس الشورى، وذلك في استمرارية لسيطرة الحكومة المطلقة على اتخاذ القرارات.

ورغم أنَّ هذه السيطرة قد انتهى عصرها بدخول البلاد وبقوة التحول إلى عصر الجبايات، إلا أنَّ الحكومة مستمرة في سيطرتها المطلقة على صناعة القرار، وهي ستكون بين أمرين: إما التراجع عن قراراتها لاحقا، أو دخولنا في حالة من الارتباك، ومن ثم قد تتراجع عنها؛ فعصر الجبايات لن يترك للحكومة لوحدها، تدبُر حاضر المجتمع، وصياغة مستقبل أجياله بقرارات أحادية مستفردة وسيطرة مطلقة، ثم يُتوقع من كل المواطنين "السمع والطاعة"، تلك مرحلة ولّت، ويحل محلها الآن الشراكة والإجماع على السياسات المالية والتشريعات. وما عدا ذلك، ستذبذب مسيرة القرارات بين التنفيذ والتراجع والتنازل، حسب قوة الضغوطات الداخلية والخارجية.

مثالُنا هنا: اضطرار 4 وزراء إلى الاستماع لرجال الأعمال بعدما أصدرت غرفة تجارة وصناعة عمان بيانًا تعارض فيه بعض القرارات الوزارية الأخيرة، التي اتُّخذت من منظور السيطرة الحكومية على القرارات. والتساؤل هنا: لماذا لم يتم الجلوس مع رجال الأعمال قبل اتخاذ القرارات، والاستماع لمرئياتهم قبل اتخاذها؟!

لن يخدم مشهد تقديم التنازلات الحكومية تحت الضغوط عصر الجبايات واستقراره، كما أنَّه يُرسخ ثقافة قديمة/جديدة في ذهنية الأفراد والجماعات، مفادها أنَّ الحقوق والاعتداد بالمصالح الأخرى، لن يكون إلا من خلال الضغوط ومن أطراف قوية.. فهل هناك إدراك حكومي لمآلات استمرارها المطلق في اتخاذ القرارات في عصر الجبايات؟

هذه القضية تدخل في صلب الحقوق الاجتماعية في عصر الجبايات، وقد نبَّه مبكرا إليها معالي الدكتور سعيد بن محمد الصقري وزير الاقتصاد، قبل أن يصبح وزيرا، وذلك في مقال له منشور على موقع "أثير" الإلكتروني عام 2017 بعنوان "ما الحقوق والواجبات على الحكومة والمواطن في وقت الانكماش الاقتصادي؟"، وقال نصًّا: "إذا كان من حق الحكومة ترشيد الإنفاق العام ورفع رسوم خدماتها ورفع نسبة الضرائب واستحداث ضرائب أخرى لمواجهة العجز، أصبح من حق المجتمع المشاركة في كيفية القيام بذلك، قبل أن يكون واجبا على المجتمع السمع والطاعة". ويضيف الصقري: "وإذا كان من حق المجتمع المشاركة في اتخاذ القرارات، وكان مشاركا حقيقيا في رسم السياسات المالية، أصبح عليه واجبا، السمع والطاعة".

منطوق هذا الفكر يتناغم مع المفاهيم الدستورية المعاصرة؛ فلا يمكن أن تفرض الحكومات ضرائب ورسومًا على المواطنين إلا بعد مشاركة ممثليهم الذين يخرجون من شرعيات انتخابية حرة، وهذا يضع السمع والطاعة في إطار الشراكة في اتخاذ القرارات، وليس بقائها في قبضة الحكومات، وهذا لم يحدث في بلادنا حتى الآن.

وفي حالاتٍ، تتجسَّد هذه القبضة في وزارة واحدة، مثل وزارة العمل التي أُسندت إليها صلاحيات مجموعة وزارات سابقة، وتتدخل بصورة مطلقة في قطاعات اقتصادية واجتماعية، فشهدنا الموقف المعارض للغرفة كنتيجة طبيعية لهذه القبضة الحديدة. واللافت أن القبضة الحكومية الجديدة تُفكك ما بُني خلال قبضة الحكومة منذ عام 1970، غير أن الفارق بين القبضتين جوهريٌ، فالأخيرة كانت -ورغم قبضتها الحديدية- تضمن الحدود المقبولة للمأكل والمشرب والمسكن والعمل، أو تفتح الآمال لبعضها حتى لو عن طريق الديون. أما القبضة الجديدة، فإنها تغتال كل الآمال الاجتماعية للحاضر والمستقبل.

لذلك؛ سندخل في مرحلة شد وجذب مرتفعة ومفتوحة، ما لم نستدرك الوضع سريعا؛ فعصر الجبايات إذا ما كان خيارَ بلادنا الجديد، فإن الحكومة ينبغي أن تتخلى عن سيطرتها المطلقة على القرارات المصيرية التي تُعيد صياغة حاضر المجتمع لوحدها، وتستفرد بصناعة مستقبل أجياله لوحدها.. فالمواطنون يعلمون بالمتناقضات التي تحيط بواقعهم، ويعيشون حالة انقلاب في أوضاعهم الاجتماعية بسبب القرارات الحكومية حتى الآن، والحل ليس في السيطرة الحكومية المطلقة، وإنما وفق ما كان ينادي به الدكتور سعيد الصقري قبل أن يصبح وزيرا، وقد وُفِّقَ كثيرا في بلورة مفهوم السمع والطاعة، الذي ينبغي أن يحكم العلاقة بين الحكومة والمجتمع.

فهل سيكون أبريل المقبل نقطة تحول يستدرك الجانب السياسي من خلال قيام شراكة حقيقية بين الحكومة والمجتمع تتم بموجبها مراجعة قرارات القبضة الحكومية، وإيجاد حلول لأزماتنا المعاصرة، وفق القاعدة الشهيرة "لا إفراط ولا تفريط"؟ فالاستقرار بمفهومه العام مصيره يتوقف الآن على هذا النوع من الشراكة، بعدما كشفت السيطرة المطلقة عيوبها وفشلها في الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية في ظل الأزمات.