رأس المال البشري

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي

باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

 

 

تعود فكرة "رأس المال البشري" إلى كتابات آدم سميث في القرن الثامن عشر وربما قبل ذلك، لكن الظهور الأقوى للمصطلح جاء في دراسات قام بها اقتصاديون في منتصف القرن العشرين أشهرهم غاري بيكر Gary Baker وثيودور شولتز  Theodore Schultz من جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية.

ويعرف رأس المال البشري بأنَّه المصادر غير الملموسة التي يملكها الأفراد والمجموعات بصورة جماعية ضمن مجتمع سكاني واحد، وتشمل المعارف والمهارات والخبرات والذكاء وغيرها. أو هي "مخزون المعرفة والعادات والسمات الاجتماعية والشخصية، بما في ذلك الإبداع المتمثل في القدرة على أداء العمل لإنتاج قيمة اقتصادية". أو هو القيمة الاقتصادية لقدرات وكفاءات العامل، مثل التعليم والمهارات التي تحسن من الإنتاجية. وقد حدد البنك الدولي العناصر المكونة لرأس المال البشري بأنها "المعارف والمهارات والقدرات الصحية لدى الأشخاص على مدار حياتهم، بما يمكنهم من استغلال إمكاناتهم كأفراد منتجين في المجتمع".ولسنا هنا بصدد إضافة جديد إلى مفهوم رأس المال البشري أو التوسع في شرحه، فقد سال في وصفه وشرحه أطنان من المداد وتلال من الورق، ولكنها كانت مقدمة ضرورية للتذكير بأنَّ رأس المال البشري رأس مال نادر ويجب تنميته والاستثمار فيه واستثماره، ولا أقول استغلاله كما درج البعض في قول ذلك.

رغم أنَّ كثيراً مما كُتب في هذا المجال ركز على تنافس الشركات على استقطاب الخبرات كرأس مال بشري للعمل بها، إلا أنه من الواضح أن الدول أيضاً تعمل على استقطاب الكفاءات المتميزة وتغريهم بالهجرة إليها والإقامة، والاستيطان فيها، خاصة تلك الدول قليلة السكان، مثل كندا وأستراليا، أو الدول التي تعاني من خلل ديموغرافي بسبب ضعف النمو الطبيعي لسكانها مثل ألمانيا. وعطفاً على المقال الذي نشرته في جريدة الرؤية في 15 فبراير 2021 وكان بعنوان "صناع التنمية"، فإنَّ من المفيد مواصلة الحديث عن موضوع الكفاءات العُمانية خاصة في ظل الظروف التي يشهدها الاقتصاد المحلي والاقتصاد العالمي عامة، وكذلك على ضوء إعلان بعض الدول عن سياسيات وخطط لاستقطاب كفاءات وخبرات من الخارج وتسهيل إقامتهم وتوطينهم فيها.

ويرتبط برأس المال البشري ما أصبح يُطلق عليه منذ سنوات "هجرة العقول" أو "نزف الأدمغة"brain drain، وربما تعمد المهتمون والخبراء استخدام مصطلحات قوية كهذه للتأكيد على خطورة استمرار هجرة الكثير من الكفاءات من مواطني الدول النامية إلى البلدان المتقدمة والصناعية، خاصة بلدان منظمة التعاون والتنمية OECD. وقد كانت الهند أكبر الدول التي عانت من "نزف الأدمغة" لسنوات طويلة، لكن تقدم التقانة والصناعة فيها خلال العقدين الأخيرين جعل كثيرًا من مواطنيها الذين هاجروا منها يعودون إليها، وكذلك حال روسيا التي هاجر منها علماؤها في فترة تفكك الاتحاد السوفييتي ثم بدأ بعضهم في العودة إليها مؤخرًا. وعلى عكس الهند وروسيا فإنَّ الوضع في كثير من الدول العربية قد زاد سوءًا، حيث تستمر هجرة الملايين من أصحاب الكفاءات والخبرات العرب لأسباب عديدة، خاصة في السنوات الثلاثين الأخيرة، الأمر الذي أدى إلى تكاليف اجتماعية واقتصادية كبيرة. وفي عام 2019 قدرت منظمة العمل العربية الخسارة  الناجمة عن هجرة الكفاءات العربية بحوالي 200 مليار دولار. ومن أبرز الأمثلة التي برزت مؤخراً وأكثرها مأساوية هجرة مئات الآلاف من ذوي الخبرات والكفاءات من العراق وسوريا، هرباً من ويلات الحروب ومن الشعور بعدم الأمان هناك وطلباً للرزق، قاصدين البلدان الصناعية وبعض البلدان المجاورة. وقد كانت ألمانيا من الدول التي أدركت أهمية الاستفادة من الكفاءات السورية، فسهلت هجرتهم وإقامتهم فيها، الأمر الذي عاد على الاقتصاد والمجتمع الألماني بفوائد جمَّة.

لقد أثبت عددٌ من العمانيين من ذوي المعارف والقدرات العلمية والمهارات المهنية كفاءة عالية، سواء أثناء دراستهم في الخارج أو بعد عودتهم والعمل في البلاد. وفي السنوات العشر الماضية توسعت السلطنة في تقديم المنح والبعثات في مجال التعليم العالي وفي تخصصات مميزة، سواء داخل السلطنة أو خارجها. وحسب الكتاب الإحصائي السنوي الصادر عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات فإنَّ عدد العمانيين المسجلين في الجامعات والكليات وما فوق المرحلة الجامعية الأولى للعام الدراسي 2018/2019 داخل السلطنة وخارجها يزيد على 40 ألف طالب، منهم أكثر من 8 آلاف طالب خارج السلطنة، حوالي 5 آلاف منهم يدرسون تخصصات تشمل الزراعة والبيئة والصحة وهندسة العمارة والإنشاءات وهندسة التقانة وتقانة المعلومات، وأكثر هؤلاء يدرسون في بلدان متقدمة مثل أمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا. ولا شك أنَّ هذا النوع من التخصصات مطلوب في كل أنحاء العالم، خاصة أولئك الحاصلين على درجة الماجستير فأعلى أو الذين أظهروا تفوقاً وبراعة أثناء دراستهم في مرحلة البكالوريوس. ولا يقتصر الأمر على من هم على مقاعد الدراسة، بل إنَّ هناك من أصحاب المهارات والكفاءات ممن تخرجوا وأصبحوا يبحثون عن فرص عمل أو مجال لاستثمار مهاراتهم وقدراتهم سواء كانوا من المؤهلين في تلك التخصصات أو في تخصصات أخرى مثل المالية والاقتصاد والتدريس بمختلف أقسامه ومستوياته.

وحيث إنَّ المغريات التي تقدمها بعض الدول لاستقطاب رأس المال البشري كبيرة، فيجب ألا تؤدي الأوضاع المالية في البلاد إلى اضطرار بعض من أهل الكفاءات والخبرات العالية من العمانيين إلى البقاء في البلدان التي يدرسون فيها أو الخروج إلى بلدان أخرى تقدم لهم فرصاً جيدة للعمل فيها. وربما يرى البعض أنَّه لا ضير من خروج بعض الكفاءات للعمل في بلدان أخرى ما دامت لا تتوافر فرص عمل مناسبة لهم داخل البلاد. ويرى أصحاب هذا الرأي أن العالم كله ساحة وسوق لأهل المعرفة والعلم والكفاءة، وأن خير الذين يعملون في الخارج سيأتي إلى الوطن في صورة خبرات جديدة يكتسبونها أو تحويلات مالية يحولونها، كما هو حال الكثير من الخبرات المهاجرة، حتى من بعض الدول المتقدمة، للعمل في دول أخرى. لكنه يجب التنبه إلى أنَّ على الوطن واجب الرعاية والاحتضان لأبنائه وتقديم كل ما من شأنه أن يضمن مستقبلهم واستقرارهم فيه، وفي المقابل على أبناء الواطن واجبات كثيرة تجاه وطنهم ومن ذلك الإسهام في تقدمه وبذل كل ما يمكنهم من أجل رفعته، ولا شيء أهم من العلم لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

"وطني لو شُغلتُ بالخُلْدِ عنهُ

نازعتني إليه في الخُلدِ نفسي"

.

تعليق عبر الفيس بوك