من يبيعني حلمًا؟

 

عبدالله الفارسي

السماءُ مصدرُ الأحزان، ومصدرُ الأحلام أيضاً.. يقولون إن الحلم هو "الحرية المُطلقة"؛ حيث لا رقيب يقطع المتعة ولا حسيب يكسر اللحظة! ويقولون: لكي لا تنسى أحلامك، حاول أن تحكيها لأحب النَّاس إليك؛ فالأحباب أرشيف مقاطعك الأليمة ولحظاتك الجميلة.

أنا مدمن أحلام، لذلك أنا مدمن للنوم، هروباً إلى عالم الحلم، إلى ذلك العالم الذي أغوص فيه عميقاً حتى التلاشي والذوبان. سمعتُ أن البعض يحلمون بأحلام مزعجة أو ما يسمى "الكوابيس"، فاندهشت حقيقة لأنني لم يزرني كابوس في منامي، وحين سألت أحد المتخصصين في الإجابة على هذا النوع من الأسئلة، قال لي: أنت نهاراتك كوابيس مُزعجة، لذلك أحلامك تكافح كوابيسك بالتواطؤ مع عقلك الباطن المتعاطف معك دائماً.

أخبرتكم في مقال سابق عن فقدان صديق عزيز، وعندما فقدته فقدتُ الأحلام. كان هو الوحيد الذي أهرع إليه كل يوم ليفسر لي أحلامي الكثيفة المتهاطلة دون سحب أو رياح؛ إذ لا أثق في أحد آخر غيره أعرض عليه أحلامي وأفرشها أمامه.

من الخطر أن تسرد أحلامك لأي أحد من الناس، الناس غالباً سيعبثون بأحلامك ويتهمونها بالخيانة، لذلك احرص على اختيار الأمين على سماعها، واختر العميق القادر على تفسيرها، فحتى الأحلام لا تنجو من الغيبة والنميمة والتشويه في مجتمعاتنا.

منذ فترة طويلة لم يغزني حلمٌ، لم تقتحم الأحلام غرفتي، حتى الأحلام نأت بنفسها وتكبرت، كانت تزورني باستمرار وانتظام، تخفف عن روحي وطأة الشمس، وتمسح عن صدري غثاثة النهار، وتغسل من عيني قبح الواقع وضجيح البشر وأوار المكان.

آخر حلم حلمته لم أتمكن من عرضه على مفسر أحلامي الوحيد، والذي توفي ورحل وانتقل إلى عالم الأحلام الخالص قبل واقعة الحلم بأيام. فذات ليل ملغم بالنجوم حلمت أنني كنت أمشي في منطقة عارية جرداء من كل شيء، فرأيت شجرة ظليلة وافرة الظلال غريبة الشكل لا تمت لتلك البيئة الجرداء بأية صلة، فأخذت أتأملها بتعحب كطفل يرى شجرة لأول مرة، ثم جلستُ تحت ظلها الوافر، فغفوت، وحين استيقظت، استيقظت في العراء، دون شجرة ودون ظل؟ لا شيء سوى الفراغ الواسع والعراء الشاسع والصمت الفازع. كل ما فهمته من مغزى الحلم أن الشجرة تعني المرأة الرحوم الشفوق، والظل هو الصديق الصدوق، والعراء هو الحرمان والفقدان!

الأحلام ضرورة من ضرورات البقاء لأولئك الذين تربطهم بالواقع علاقة نفور، واتفاقيات شجار، ومعاهدات تصادم، وعراك.

كانت أحلامي لا تنقطع، تهطل عليَّ في كل مواسم الظلام، تسقط علي في كل ارتداءات السواد، ترشني في أغلب فصول الجفاف وتقتحمني في أمسيات الكسور وصباحات السقوط والعثرات.

لا أدري لماذا توقفت الأحلام، وأنقطع صوتها واختفى صهيلها، رغم أنني كنت بارا بها، مخلصاً لحضورها. كنت أجهّز لها كل ما يشتهيه قلبها، ويجذب روحها، لطالما عددت لها المفارش والعطايا، لطالما رفعت لها الأيادي ملأى بالسلام والهدايا. كنت أحكم رباط الظلام في غرفتي، وأغلق كل منافذ الضوء والضجيج. وأنشر الأريج الذي يجذب الأحلام ويصيدها.. كانت علاقتي بالأحلام علاقة وثيقة، كانت صديق الليل الطويل، ورفيق الصمت البهيم.

حين تنقطع علاقتك بالأحلام، تشعر بأن السماء ليست على وفاق معك، وأن الحياة تُدبر لك مكيدة ما. لذلك ذهبت إلى المشايخ أصحاب الكتب والدفاتر فسألتهم أن يعيدوا لي أحلامي. فقالوا لي الأحلام مُنتهية الصلاحية لا تعود، إنها كالأرواح، حين تموت وتفنى. فذهبت إلى طبيب الأعصاب، وقلت له: أحلامي توقفت، فتوقفت الحياة في عقلي، فأحضر أنابيبه ورفع مجساته وأجرى فحوصاته ونبش في شعيرات الرأس وطرق الجمجمة بمطرقة من ورق، وكتب ملاحظاته، وقال: عقلك الباطن يحتاج إلى غسيل إنه مليء بالطين والتراب والحصى، وهذا ما يمنع الأحلام من التدفق والسريان. واظبت على الاغتسال مرتين في النهار، والثالثة قبل أن أنام، وما زالت الأحلام بعيدة مُتعسرة الهطول عسيرة المنال!!

ذهبت إلى الطبيب النفسي، وقلت له أنقذني، انقطعت الأحلام عن ليلي، هربت من مخدتي، وابتعدت عن لحافي. فأخذ يسألني، عن أبي وأمي الميتة وتاريخ مملكتي الشامخة، وآخر حصوني الساقطة، وأجمل سفني الغارقة. وقال لي: عليك بالاسترخاء ومُمارسة رياضة اليوجا، أنت تعاني من اكتظاظ في الأوهام، وتاريخك النفسي ممتلىء بالأسقام، اليوجا يوميًا فاعلة جداً في تأهيل الروح، وفتح نوافذها لرياح الأحلام.

غسلت عقلي الباطن بالماء والسدر والمطهرات، وتناولت المكسرات، ومارست اليوجا في كل الصباحات، لكن لم تطرق الأحلام أبواب ليلي!

ظننتُ أن الناس هم من يمارسون الغدر والخيانة، لكن حتى الأحلام خانتني ورحلت.. كنت مطيعاً لها، كزوج ضعيف مهزوز.. خانتني وهربت كامرأة ينقصها الشرف! غدرت بي كصديق معدوم الوفاء!

كانت أحلامي هي ملاذي الآمن من نهار تحترق فيه كل الأمنيات، فيمسي يومي كعلبة سردين فارغة ورائحة لا تطاق. كانت أحلام الليل هي رياحي المواتية، لأشرعتي المرفرفة. كنت أحقق كل نواقصي في أحلامي، أعالج معها كل أخطائي، أمسح بها كل زلاتي، أقتل فيها جل أعدائي، أُطهر وأضمّد وأداوي بها كل جراحاتي.

الأحلام كانت بالنسبة لي دفتر شيكاتي.. أموالي.. صداقاتي.. أكاذيبي.. ورصيد خيباتي وكل خرافاتي، كانت لهوي الممنوع.. وعبثي المقموع.. وصوتي المصروع.

الآن.. توقفت الأحلام، وها أنا أناطح النهار دون قرون، أسلخ الأيام دون سكاكين، وأخبز الأوهام دون خميرة أو عجينة أو طحين.. فمن يبيعني حلماً لليلة واحدة وبثمن ليلتين؟!

أغرب أحلامي

أما أغرب أحلامي حين حلمت ذات ظلام بأنني في الجنة، وكنت اتسكع في شوارع الجنة وأزقتها، وفوجئت برؤية كل النَّاس الذين صادفتهم في الحياة كنت أراهم يومياً في شوارع الجنة وطرقاتها!! فقفزت هلعاً ونهضت من نومي لاهثاً متعرقاً؛ فالحلم كان مخيفاً ولا يمكن تجاهله أو السكوت عنه بأي شكل من الأشكال، ولأوَّل مرة في حياتي ألجأ إلى مقابلة شيخ ومُفسر أحلام ضليع في هذا المجال، فقال لي: هذه بشارة طيبة ستكون من أهل الجنة، قلت له: هذه فهمتها وهضمتها، لكن ماذا عن أولئك الذين رأيتهم في الحلم، هل سيكونون معي؟ قال: نعم سيكونون برفقتك بإذن الله.

صدمني صدمة عنيفة، فقلت له صارخاً في وجهه محاولاً إطفاء انفعالي وتبريد توتري: أنا حقيقة أتمنى الجنة للجميع ولا أكترث بمن يدخلها وبمن لا يشم ريحها، لكن لا أتمنى أبدًا أن أرى كل من صادفتهم في الحياة أن أراهم مرة أخرى في الجنة، أتمنى لهم الجنة كلهم، لكن لا أريد أن ألتقي بهم وأصادفهم في العالم الآخر، لا أتمنى أن أسكن بجوارهم ولا أتمنى أن أرى وجوههم أبداً في الحياة الثانية.

يا شيخي، أنا أساساً هارب من الدنيا بسبب تلك الوجوه التعيسة، لقد كانوا سببا في طفشي من الحياة، فكيف أصادفهم معي مرة أخرى في الجنة؟

فطمأنني الشيخ المفسر وطبطب على كتفي برفق وحنان، وقال: اطمئن اطمئن يا عبدالله.. فالجنة واسعة جداً إنها تعادل آلاف أضعاف كرتنا الأرضية، فبإمكانك أن تسكن بعيدًا عنهم وألا ترى وجوههم أبدًا أبدًا!!