د. صالح الفهدي
أصبح طريق الشهرة يسيراً لكل من ألقى رداء الأخلاق، ومرَّغه بالطين؛ فالناس لا تلتفت لصاحب الفطرة السوية لأنه سوي، وإنما تلتفت نحو المنحرف لأنه شاذ عنها لم تعن عنده الأخلاق شيئاً، وإنما جعلها وسيلة للتكسب على أنقاضها.
كلما كثر المتابعون في وسائل التواصل الاجتماعي (وليس المعجبين) كثرت العوائد المالية، وكلما كثر المال بدأ التبسط أكثر في الانحراف، واتسع شق الأخلاق حتى يعجز رتقه على الراقع! وكل ظهور لا يمكن أن يكون أقل من سابقه، وإنما أكثر جاذبيةً، وأشد دهشةً وذلك بسبب ما أصبح يتملك النفس من إعجاب، وشعور متنام بعظمة النفس، حتى لا تعود للخصوصيات من قيمة، ناهيك عن أبسط الأخلاقيات!
رحلة من الجهل إلى الشهرة مدفوعة الثمن، ومن الفراغ إلى الانشغال مسددة التكاليف، هي رحلة أصبحت تجتذب كل جاهل مغمور، وكل مغفل مبهور، يجد في نفسه الاستعداد للتخلي عن أخلاقياته، وبيعها في الأسواق لقاء أرخص الأثمان، هنا لا يصبح هؤلاء ضحية أنفسهم فحسب، بل يصبحون ضحية المتربصين للغفلاء، الذي يتهافتون وراء المال والشهرة من أمثالهم، فيجعلونهم أدوات لغسيل أموالهم التي جنوها من طرائق سوء، وحولوا حساباتهم مصائد للمتابعين كي يقعوا في شركها..!
جادل هؤلاء عن مفاهيم الأخلاق والحرية؛ فإذا بهم يذهبون مذاهب بعض منظري الأخلاق النفعية في الغرب مثل جون ستيوارت ميل الذي رفع مبدأ: أن ما يجلب لك المنفعة والسعادة بأية طريقة كانت فهو أخلاقي!! وبالطبع هذا مبدأ رأسمالي دفع الغرب ثمنه الأخلاقي الباهظ، حيث رأينا -بعد أن عشنا سنوات في إحدى دول الغرب- كيف تتساقط الأخلاقيات الإنسانية والاجتماعية على حساب تحقيق المنفعة، حتى أصبحت الأم أو الأب مجرد (والدين بيولوجيين) أي (جسديين) لا تربطهما مع الأبناء عاطفة، ورحمة، وحنان كما هي الحال في مجتمعاتنا العربية المسلمة، ورأينا كيف أصبح الجسد مجرد سلعة لا قيمة لها، وكيف أصبحت الرحم مجرد وعاء للإيجار، حتى لم تعد تعرف قيمة للإنسان، ولا قيمة للحب الإنساني نزيه العواطف، راقي المشاعر.
تلقف هؤلاء المغفلون عندنا هذه المفاهيم دون أن يدركوا أبعادها، دون أن يعرفوا أنَّ الإنسان بقيمته الأخلاقية، وهو فرد في أمة إن ذهبت أخلاقها سقطت إلى الحضيض ولم يعد لها اسم يُذكر، ولا أثر ينظر!
جادل هؤلاء الفارغون بأن الفرد حر في نفسه، ولم يعُوا معنى ما يقولون، ما معنى أن يكون الفرد حُرًّا في نفسه؟ هل يعيش في عالم الغاب، أم يحيا في إطار دولة لها سلطاتها التنظيمية التي تقوم أول ما تقوم على أخلاقيات سامية، تحمي كرامة الإنسان، وتحفظ حريته، وتصون حقوقه، وتقدر قيمته، ولأجل ذلك تحميه من نفسه -قبل أن تحمي غيره منه- إن هو طغى عليها، وتمرَّد على كرامتها، وأراد أن يسفه نفسه، ويمرغها في مستنقع الخطيئة، يقول الروائي والكاتب الفرنسي أندريه موروا: "الحرية والمسؤولية توأم، لو انفصل أحدهما عن الآخر ماتا جميعا".
للفرد حريته التي تصون أخلاقياته، وتحفظ كرامته، وليس له الحرية في أن يفسد نفسه، ويؤثر بهذا الفساد على الآخرين، فهو عضو في مجتمع له حقوق، وعليه واجبات، وليس منعزلاً عن المجتمع، ومن هذا القبيل عليه أن يقبل راضياً بأخلاقيات المجتمع التي ما أقرت إلا لأجل الحفاظ على الفرد ليكون إنساناً صالحاً فاعلاً في المجتمع.
من جانب آخر، تتدخل الدولة كما يملي عليها واجبها لصيانة هوية الأمة، ومقدراتها الثقافية، وسمعتها التاريخية من أجل تقويم المسلكيات، وتهذيب الأخلاقيات، وتصويب الاعوجاجات، فهي تدرك تمام الإدراك أن صمتها، وغضها الطرف عن انتهاك الأخلاقيات التي تُشكل كيانها إنما هو طريق تترسمه لانحدارها، وضياعها، وأن قيامها لردع المعتدين على أخلاقياتها إنما هو ردع للنفوس الفاسدة من توسعة رقعة فسادها الأخلاقي.
لا يُمكن لمن يدعي حرية منفلتةً من عقال الأخلاق أن يكون فرداً صالحاً في المجتمع، وإنما فرد تقوده شهواته لغايات معينة، لأن الانفلات الأخلاقي لا علاقة له بحرية الإنسان؛ فالأخلاق والحرية والمسؤولية قيم مرتبطة ببعضها البعض؛ إما تسمو بصاحبها أو تلقي به في مستنقعات الضياع!
إنَّ الأخلاق مثل النبات كما شبهها الشاعر معروف الرصافي قائلا:
هي الأخلاق تنبت كالنبات
إذا سقيت بماء المكرمات
وعلى نقيض ذلك، فإنها إن لم تسق بماء المكرمات فإنها ستذبُل وتجف وتموت، حينها لا يبقى للأمة من أثر، ولا يكون لها من ذكر، والمتتبع للتاريخ يجد أن أمماً أودت بها أخلاقياتها الرديئة إلى الهلاك، وأمما رفعت عمد أركانها الأخلاق.
دروس من التاريخ لمن شاء أن يتدبر ويعتبر.